كيف يمكن لأزمة الدولار أن تهز الاقتصاد العالمي؟
حين يفقد العالم ثقته في أمريكا: أزمة الدولار تلوح في الأفق

في تقرير تحليلي نشرته The Economist، تسلط المجلة الضوء على منعطف خطير قد يعيد رسم ملامح النظام المالي العالمي: تراجع الثقة في الدولار، الرمز التاريخي للنفوذ الاقتصادي الأميركي. فخلال أشهر قليلة، خسر الدولار أكثر من 9% من قيمته مقابل سلة من العملات الرئيسية، رغم ارتفاع عوائد سندات الخزانة، ما يشير إلى ظاهرة غير مألوفة—عزوف المستثمرين عن الأصول الأميركية رغم تحسن عوائدها. هذا التناقض الصارخ يكشف عن قلق عميق بشأن مصداقية السياسة الاقتصادية في واشنطن، وسط عجز مالي متفاقم وتوترات سياسية آخذة في التصعيد. تحذّر The Economist من أن استمرار هذا المسار قد يدفع الاقتصاد العالمي نحو أزمة زعزعة، تهدد ليس فقط مكانة الدولار كعملة احتياط، بل أيضًا استقرار النظام الذي بُني لعقود على ثقة العالم بالولايات المتحدة.
فقدان الثقة في الأعمدة الأساسية
لعقود، كانت الأصول الأمريكية، وعلى رأسها سندات الخزانة، تشكّل دعامة النظام المالي العالمي بفضل عمق سوقها البالغ 27 تريليون دولار، وهيمنة الدولار على التجارة الدولية. وقد عزز ذلك كل من التزام الاحتياطي الفيدرالي بالسيطرة على التضخم، واستقرار الحوكمة الأمريكية. لكن إدارة الرئيس دونالد ترامب نسفت هذه الأسس في أسابيع قليلة، محدثة زعزعة عميقة في ثقة الأسواق.
قرارات مرتجلة وأزمة مصطنعة
جذور هذه الأزمة المحتملة تمتد إلى البيت الأبيض. فالحرب التجارية التي أطلقها ترامب تضمنت زيادات هائلة في الرسوم الجمركية وخلقت مناخاً من عدم اليقين الاقتصادي. وفي حين كانت الولايات المتحدة تُعد نموذجاً للنمو، فإنها الآن تقف على أعتاب ركود اقتصادي، وسط اضطرابات في سلاسل الإمداد وارتفاع في التضخم وتآكل في القوة الشرائية للمستهلكين.
تفاقم العجز.. وتصاعد القلق
يأتي هذا في وقت يتدهور فيه الوضع المالي الأمريكي بوتيرة مقلقة. فالدين الصافي يعادل نحو 100% من الناتج المحلي الإجمالي، والعجز في الميزانية بلغ 7% في عام واحد فقط. ومع ذلك، مضى الكونغرس قدماً في تمرير موازنة من شأنها – وفقاً لتقديرات لجنة الميزانية الفيدرالية المسؤولة – أن تضيف 5.8 تريليون دولار من العجز على مدى العقد المقبل. هذه الزيادات تتجاوز حتى إجمالي تخفيضات ترامب الضريبية السابقة، وإنفاق جائحة كوفيد-19، وخطط التحفيز في عهد بايدن.
فقدان البوصلة الاقتصادية
ما يزيد من تفاقم الأزمة هو تصاعد الشكوك في قدرة إدارة ترامب على الحكم بكفاءة أو اتساق. فالإجراءات الجمركية اتسمت بالفوضى والعشوائية، ما فتح المجال أمام جماعات الضغط والمصالح. والأسوأ من ذلك، أن بعض مستشاري البيت الأبيض بدأوا يتحدثون عن عبء الاحتفاظ بالدولار كعملة احتياط عالمية، وكأنها لعنة وليست ميزة.
الفيدرالي في مأزق.. والأسواق تترقب الأسوأ
أمام هذه الفوضى، يجد الاحتياطي الفيدرالي نفسه تحت ضغط متزايد. فرغم محاولات ترامب التأثير عليه لخفض أسعار الفائدة، فإن النظام القضائي قد يمنعه من عزل مسؤوليه، لكنه سيظل قادراً على تعيين رئيس جديد موالٍ له في 2026. في هذه الأثناء، تدفع سياسات البيت الأبيض بعض المستثمرين للتشكيك في سلامة أصولهم الأمريكية، خصوصاً إذا اتُخذت قرارات تعسفية تمس حقوقهم القانونية.
السيناريو الكارثي: أزمة سندات شاملة
من السهل تصور سيناريو كارثي يضرب سوق السندات الأمريكية، خاصة وأن المستثمرين الأجانب يمتلكون نحو 8.5 تريليون دولار من الدين الحكومي الأمريكي – أي ما يقارب الثلث ومعظمهم من القطاع الخاص، الذي لا يخضع للضغوط السياسية. في ظل حاجة الولايات المتحدة لإعادة تمويل 9 تريليونات دولار خلال عام، فإن أي ضعف في الطلب سيؤدي بسرعة إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض، مما يفاقم عجز الميزانية.
أزمة بلا أدوات إنقاذ واضحة
في الأزمات السابقة، مثل أزمة 2008 أو جائحة كورونا، تدخل الكونغرس بضخ الإنفاق. أما هذه المرة، فقد تكون الحاجة إلى تقليص الإنفاق ورفع الضرائب بشكل حاد. لكن في ظل الانقسام السياسي الحالي، قد لا يتحرك صانعو القرار إلا بعد أن تفرض الأسواق آلاماً شديدة. وقد تنتشر العدوى إلى بقية النظام المالي، مع موجات تعثر في السداد وانهيارات محتملة لصناديق التحوط، في مشهد أقرب لما يحدث في الأسواق الناشئة.
النظام النقدي في مهب الريح
سيواجه الفيدرالي حينها معضلة: هل يضخ السيولة لإنقاذ السوق؟ لكن هذا قد يُفسر على أنه تمويل مباشر لعجز دولة تزداد مديونيتها، وهو أمر محفوف بالمخاطر في ظل معدلات التضخم المرتفعة. ومن جهة أخرى، هل سيستمر في دعم البنوك المركزية الأجنبية بالدولار، كما يفعل عادةً في الأزمات، حتى لو عارض ترامب ذلك؟
الدولار ليس بمنأى عن السياسة
العملة، في نهاية المطاف، تعكس ثقة العالم بالحكومة التي تصدرها. وكلما استمر التدهور السياسي والمالي، زادت احتمالية حدوث زلزال مالي يعيد تشكيل النظام العالمي. وإذا تراجع دور الدولار، ستخسر أمريكا ميزة لا تقدر بثمن: تكلفة تمويل منخفضة لكل من الشركات والمستهلكين.
العالم بلا بديل حقيقي
سيعاني العالم أيضاً، لأن البدائل للدولار محدودة وضعيفة. اليورو يفتقر إلى أصول آمنة كافية، وسويسرا صغيرة، والين الياباني يرزح تحت جبل من الديون. أما الذهب والعملات الرقمية فلا تحظى بدعم حكومي. في ظل غياب بديل قوي، قد يتنقل المستثمرون بين أصول مختلفة، ما يخلق فقاعات وانفجارات متتالية تهدد استقرار الاقتصاد العالمي.