الشبكه الإيرانية: كيف تصل شحنات النفط إلى الصين رغم العقوبات

منذ عقود، شكّل النفط الإيراني العصب الحيوي لاقتصاد طهران وأحد أهم مصادر العملة الصعبة. لكن مع تشديد العقوبات الغربية، وخاصة الأمريكية، ابتكر الإيرانيون وحلفاؤهم شبكات معقدة للالتفاف على القيود الدولية. تكشف وثائق وتحقيقات حديثة عن دور وسطاء وشركات وهمية تمتد من بنما إلى سويسرا، لتغطية شحنات نفطية بمليارات الدولارات وصلت إلى الصين، أكبر مستورد للخام في العالم. هذه العمليات لم تقتصر على النفط الإيراني وحده، بل توسعت لاحقاً لتشمل شحنات من فنزويلا وروسيا، ما جعل من بعض الوسطاء بمثابة “سوبر-وسطاء” للخام الخاضع للعقوبات.
ما يثير الانتباه أن الأساليب المستخدمة في هذه الشبكات – من الرهون البحرية على ناقلات النفط، مروراً بتغيير أسماء السفن ونقل الشحنات في عرض البحر، وصولاً إلى استخدام شركات وهمية صينية – تعكس مدى تعقيد تجارة الظل النفطية، وكيف تحولت إيران إلى مصدر خبرة في “تصدير نموذج المراوغة” إلى دول أخرى خاضعة للعقوبات. هذه التطورات تأتي في لحظة حساسة، مع عودة واشنطن تحت إدارة ترامب للتلويح بخنق صادرات إيران مجدداً، بالتوازي مع توسيع القيود على روسيا.
بداية القصة: لقاء غامض في سويسرا
في ربيع 2019، دخل رجل إيراني يُدعى سعيد عليخاني إلى مكتب محامٍ في مدينة تسوغ السويسرية، عارضاً فكرة غير مألوفة: استخدام الرهون البحرية على ناقلات نفط كضمانة لتعاملات تجارية مع مشترين صينيين. بدا الأمر في ظاهره قانونياً، لكن لاحقاً اتضح أن هذه الناقلات لم تكن تحمل نفطاً من ماليزيا أو العراق كما ادّعى، بل نفطاً إيرانياً وفنزويلياً. على مدى أشهر، ساعد المحامي السويسري – ومعه آخرون – في إتمام رهونات لعشرات السفن تجاوزت قيمتها مليار دولار.
الرهون البحرية كأداة للتهرب
اعتمدت شبكة عليخاني على الرهون البحرية بدلاً من خطابات الاعتماد التقليدية التي ترفضها البنوك بسبب العقوبات. بهذه الطريقة، إذا لم يسدد المشتري ثمن الشحنة، يصبح من حق الشركة المالكة المطالبة بالناقلة نفسها. هذه الثغرة القانونية سمحت بمرور شحنات ضخمة دون المرور عبر النظام المالي التقليدي، ما وفر طبقة إضافية من الحماية ضد العقوبات.
الشركات الوهمية والإدارة الصينية
معظم الناقلات المرتبطة بالشبكة كانت مسجلة بأسماء شركات صينية واجهة، غالباً ما كان أصحابها مجرد أشخاص عاديين لا علاقة لهم بالنفط أو الملاحة. عناوينهم في الصين كانت في أحياء سكنية متواضعة، وبعضهم لم يكن على علم بملكية سفن بملايين الدولارات. هذا الغطاء البشري منح الشبكة مظهراً “مدنياً” بعيداً عن أنظار العقوبات.
نقل النفط في عرض البحر
من أبرز التكتيكات المستخدمة، عمليات النقل من سفينة إلى أخرى في عرض البحر، خصوصاً في مضيق ملقا أو قرب سواحل إسبانيا. هذا الأسلوب جعل تتبع الشحنات أكثر صعوبة، وأتاح للنفط الإيراني أن يتحول إلى شحنات “غامضة” الوجهة قبل أن ينتهي في الموانئ الصينية.
توسع الشبكة نحو روسيا وفنزويلا
مع تصاعد العقوبات الغربية على موسكو بعد حرب أوكرانيا، أعادت الشبكة استخدام خبراتها في الالتفاف على القيود لنقل النفط الروسي. ناقلات مثل “سكادي” و”آن شون 2″ استخدمت لنقل الخام الروسي عبر عمليات معقدة، ما جعل الصين المستفيد الأول من هذا التوسع، حيث استقبلت 93% من مجمل هذه الشحنات.
رد الفعل الأمريكي
بحلول 2024، فرضت واشنطن عقوبات مباشرة على شركة “أوشن غلوري”، بوصفها واجهة إيرانية متنكرة في صورة وسيط مستقل. كما أُدرجت عشرات السفن المرتبطة بها على قوائم العقوبات. هذه الإجراءات لم توقف التجارة تماماً لكنها ضيّقت الخناق، في وقت واصل فيه الصينيون استيراد أكثر من 1.5 مليون برميل يومياً من إيران ونحو مليوني برميل يومياً من روسيا.
موقف بكين
الصين لم تنكر استيراد النفط الخاضع للعقوبات، مؤكدة أن “التعاون الطبيعي بين الدول ضمن إطار القانون الدولي أمر مشروع”. بالنسبة لبكين، فإن العقوبات الأمريكية الأحادية تفتقر إلى الشرعية، وبالتالي فهي ترى أن هذه الشحنات تمثل تجارة طبيعية لا تستوجب التوقف.
إيران وتصدير “خبرة المراوغة”
بحسب خبراء، لم تكتف إيران ببيع نفطها، بل صدّرت نموذجها الكامل في المراوغة، من استخدام الأساطيل المظلمة إلى إنشاء الشركات الوهمية. هذه الشبكات تحولت إلى دليل عملي لدول أخرى خاضعة للعقوبات مثل روسيا وفنزويلا، وهو ما جعل تجارة النفط غير الشرعية أكثر تعقيداً وصعوبة في الملاحقة.