الوكالات

المقاومة في الضفة تُفقد أنفاسها: جنين من «عاصمة الشهداء» إلى مدينة تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة

تعيش جنين هذه الأيام تحوّلاً قاسياً طمسه من كان يعتبرها رمزاً للمقاومة الفلسطينية إلى مدينة تبدو مهيأة لاستقبال واقعٍ جديد من الخواء والخوف. ما شهدته المدينة ومخيمها خلال الأشهر الماضية لم يَقِلّ في شدته عمّا حلّ بقطاع غزة من دمار وتهجير، ما دفع كثيرين إلى إعادة حساباتهم حول جدوى حمل السلاح. سكان جنين، الذين وقف بعضهم في صفوف الانتفاضة وكتبوا فصلاً من تاريخ المواجهة، يجدون أنفسهم الآن أمام مشهد علني للسيطرة: جنود يتجوّلون بحرية، مخيم محاصر، وجدران تبهت عليها صور أبطال الصمود. الأثر ليس عسكرياً فحسب، بل اجتماعي ونفسي أيضاً — حيث تحوّل هاجس البقاء إلى أولوية يومية، وبدأت الحياة تُعاد صياغتها حول لقمة العيش والأمان الشخصي. في هذا السياق تتراجع الشعارات لتفسح المجال لصوتٍ داخلي يتساءل كيف يستمر الناس في البقاء على أرضٍ تُحاط فيها الحياة بظلال الخطر.

من رمزٍ للمقاومة إلى صمتٍ مُقيد

لم تكن جنين مجرد مدينة؛ كانت، لدى كثيرين، عنواناً للتحدّي والاعتداد بالمقاومة. اليوم، تتحوّل هذه الهوية أمام أعين سكانها إلى سؤال عن حدود الصمود. مشاهد الجنود الذين يجوبون الشوارع بحرية خاطفة للأنفاس، والمخيم المحاصر الذي طُبعت حوله سواتر ترابية تفصله عن بقية المدينة، تضع السكان في حالة تأهب دائم، لكنها أيضاً تُولّد استسلاماً واقعياً. شادي دباية، مثلاً، يروي كيف أن جسده ما زال يحمل آثار رصاص سنوات سابقة، وكيف تغيّرت نظرة الناس للمقاومة من «شرف» إلى «خطر على البقاء» بعد مشاهدة ما حلّ بغزة. هذا التحوّل النفسي ليس فردياً فحسب؛ إنه يتغلغل في النسيج الاجتماعي: جيران يغادرون، أحياء تُخلى، وشباب لا يجرؤون على رفع السلاح خوفاً من مصيرٍ يشبه ما حصل في أماكن أخرى. في الخلفية، تبقى صورة المخيم الفارغ من مقاتليه وصور الأبطال التي تبهت على الجدران شاهدةً على نهاية مرحلة وولادة واقعٍ جديد من الخوف المنظم.

سيطرة عسكرية وتأثيرات يومية على المدنيين

التحركات العسكرية اليومية والإجراءات الإدارية المصاحبة لها تركت أثراً مباشراً على حياة الناس الروتينية: عمليات تفتيش متكررة، مداهمات ليلية، وقرارات إخلاء قسرية تُفرض على أحياء بأكملها. هذه الإجراءات لم تَخِلُ من تبعات إنسانية واقتصادية؛ فالمشروعات الصغيرة توقفت، والسوق المحلية تراجعت، والقدرة على الوصول إلى الخدمات الأساسية تضررت، ما عمّق هشاشة الأسر التي كانت تكافح من أجل البقاء قبل التصعيد الأخير. الاعتقالات الجماعية أصبحت مشهداً مألوفاً، وفيديوهات تُنشر على شبكات التواصل تُظهر شباناً يسيرون مقيّدين ورؤوسهم منحنية، ما يعزز حالة الإحباط والعار الاجتماعي لدى العائلات المتأثرة. إلى جوار ذلك، تُسجَّل زيادة في نشاط المستوطنين وإجراءات الاحتلال اليومية التي تقوّض الإحساس بالأمان، بينما يستمر القلق من أن يتحوّل ما حدث في غزة إلى نموذج يُطبّق في أماكن أخرى من الضفة، الأمر الذي يجعل السكان يعيشون تحت وطأة احتمال متكرر للتهجير والعنف.

 

التحركات العسكرية اليومية حوّلت حياة السكان إلى خوف واعتقالات وتهجير دائم.

مواجهة بلا سلاح: الثقافة والكلمة كأدوات بقاء

مع تراجع المقاومة المسلحة أو اختفائها من الساحة الفعلية، يسعى جزء من المجتمع في جنين إلى تحويل المقاومة إلى أشكال أخرى: ثقافية، حقوقية، وإنسانية. مسرح الحرية ومؤسسات ثقافية محلية تحاول الحفاظ على نبض المدينة عبر عروضٍ ومبادرات تُعيد تركيب الذاكرة الجماعية وتمنح الناس مساحة للتعبير والالتقاء. مصطفى شتّا، الذي عانى الاعتقال والاحتجاز، يصف كيف تغيّرت الأولويات بعدما وجد أن جبهات المواجهة المسلّحة باتت أقل حضوراً؛ فالإصرار الآن هو على البقاء في الأرض والحفاظ على الحياة اليومية بكرامة. هذه المقاومة البديلة لا تستهان بها: الكلمة والوثائق والضغط الحقوقي وحفظ السرد المجتمعي قُدرة على تحدّي محاولات محو الهوية. لكنها أيضاً تواجه قيوداً قاسية؛ ففي ظل القمع الميداني والاعتقالات والقيود المفروضة على العمل المدني والثقافي، يصبح النجاح محدوداً وصعب التمويل والاستمرار، ما يضع مبادرات البقاء هذه على حافة الحاجة لدعم داخلي وخارجي ليبقى للأمل صوت.

مع تراجع السلاح، تحوّلت مقاومة جنين إلى ثقافية وحقوقية تصون الهوية رغم القمع.

 

كيف تصمد جنين؟ خيارات البقاء مستمرة

رغم الشعور المتزايد بالإحباط، يبقى السؤال الأهم هو كيف يستمر الناس في العيش على أرضٍ اختبرت التهجير والدمار. الإجابة ليست موحدة؛ فهي تتراوح بين التمسك بالوجود عبر مبادرات سكنية واقتصادية محلية، وتطوير شبكات دعم مجتمعية، واستثمار الثقافة والتعليم كوسائط لصون الذاكرة والهوية، إلى توثيق الانتهاكات وطلب حماية حقوقية وقانونية دولية. البقاء هنا يمرّ أيضاً عبر إعادة ترتيب الأولويات اليومية: منافر للعمل وتأمين الموارد، إلى طرق مبتكرة لتقديم الخدمات الأساسية رغم القيود. ومع ذلك، يبقى تحدّي الثبات الأكبر مرتبطاً بحماية المدنيين من موجات اعتقال وهدم وتهجير، وبإيجاد آليات تضامن محلية وإقليمية تمنع تحول جنين إلى نسخة مصغّرة من سيناريوهات التهجير الكبرى. في نهاية المطاف، قدرة الجنائن والناس على الصمود ستعتمد على مدى نجاحهم في تحويل معاناة اليوم إلى برامج عملية للحياة غداً، ووضع استراتيجيات واقعية تحفظ الحد الأدنى من الكرامة والأمان لكل من اختار البقاء.

اقرا ايضا

التليجراف: ستارمر يدعو أوروبا لتزويد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى