أوروبا بلا واشنطن: بين الحلم بالاستقلال والعجز عن الفعل
ترامب غيّر قواعد اللعبة... وأوروبا ما زالت تترنح

بينما تشتعل منطقة الشرق الأوسط بحرب جديدة، يتكشف مرة أخرى مأزق السياسة الخارجية الأوروبية: طموح بالاستقلال عن الولايات المتحدة، يقابله عجز فعلي عن اتخاذ مواقف حاسمة دون مظلة واشنطن. ومع أن أوروبا باتت تدرك ضرورة امتلاك موقف مستقل، فإنها لا تزال تفتقر إلى الأدوات والإرادة السياسية التي تمكنها من ذلك.
صحوة أوروبية متأخرة… وارتباك جديد
حتى وقت قريب، كانت حكومات الاتحاد الأوروبي تحاول طي صفحة من التواطؤ في جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، مستفيدة من تباعد تدريجي بينها وبين واشنطن في عهد دونالد ترامب. الأخير بدا منشغلاً بمشاريع “إنسانية” مشبوهة في غزة، أقرب إلى هندسة استعمارية منها إلى جهود إغاثية، ما أتاح للأوروبيين هامشاً لصياغة مسار مختلف.
فرنسا والسعودية كانتا على وشك عقد مؤتمر لدفع حل الدولتين، وربما إعلان باريس اعترافها بدولة فلسطينية. بل إن الاتحاد الأوروبي بدأ مراجعة لاتفاق الشراكة مع إسرائيل، تمهيدًا لاحتمال تعليق الامتيازات التجارية بسبب جرائم الحرب. لكن تلك التحركات سرعان ما جُمدت بعد الضربة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة ضد إيران والدعم الأمريكي الضمني لها.
تناقضات أوروبية تجاه إيران
رغم العداء الأوروبي التقليدي للنظام الإيراني بسبب انتهاكاته الحقوقية وتعاونه العسكري مع روسيا، لا تزال أوروبا متمسكة – نظريًا – بضرورة حل الملف النووي الإيراني عبر الطرق الدبلوماسية. فقد كانت الدول الأوروبية، وخاصة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، من رواد صيغة “E3/EU” التي شكلت العمود الفقري لاتفاق 2015 النووي.
لكن كل هذا بدا وكأنه بات من الماضي. بعد أن أخرج ترامب الأوروبيين من أي دور تفاوضي مع طهران، جاءت الضربة الإسرائيلية لتؤكد العجز الأوروبي عن اتخاذ موقف مستقل. لم يصدر أي موقف واضح من بروكسل يدين الهجوم الإسرائيلي كخرق لميثاق الأمم المتحدة، ولا باعتباره انتهاكًا للبروتوكول الإضافي لاتفاقيات جنيف، الذي يحظر ضرب المنشآت النووية لدول أخرى.
فشل في التمييز بين الدفاع والعدوان
بينما تدافع أوروبا عن حق إسرائيل – أو أي دولة – في الدفاع عن نفسها، فإنها تفشل في التفرقة بين الدفاع المشروع والضربات الاستباقية غير القانونية. ويكشف هذا التناقض عن مأزق عميق في الرؤية الأوروبية: فبدلاً من تعزيز مبادئ القانون الدولي، تنجرف أوروبا وراء تبريرات إسرائيلية وأمريكية تقوض أسس الشرعية الدولية.
العلاقة العابرة للأطلسي… إرث من التبعية
لطالما نظرت أوروبا إلى العالم من خلال عدسة العلاقة مع الولايات المتحدة. لعقود، دعمت بروكسل السياسات الأمريكية عبر أدوات التجارة والدبلوماسية والمساعدات والعقوبات، ظنًا منها بأن القيم والمصالح متقاربة. باستثناء بعض اللحظات النادرة – مثل معارضة فرنسا وألمانيا للحرب الأمريكية على العراق عام 2003 – لم تحاول أوروبا سوى تعديل نهج واشنطن، لا مواجهته.
ترامب غيّر قواعد اللعبة… وأوروبا ما زالت تترنح
أجبر نهج ترامب الخارجي الاتحاد الأوروبي على الوقوف على قدميه، خاصة في الملف الأوكراني. فهناك، نجحت أوروبا إلى حد بعيد في تقديم الدعم العسكري والمالي لكييف، واستعدت لسيناريوهات الانسحاب الأمريكي. لكن في الملفات الأخرى، كالصين والشرق الأوسط، لا تزال أوروبا تفتقد إلى الرؤية الواضحة.
صحيح أن بروكسل شددت مواقفها من بكين، وبدأت بمراقبة الاستثمارات الصينية وفرضت رسوماً جمركية على السيارات الكهربائية، لكنها لا تزال حائرة بين عدم الرغبة في التصعيد التجاري وبين الحاجة إلى الصين كشريك لا غنى عنه في التحول الأخضر وتحقيق أهداف المناخ.
تآكل الدور الأوروبي في الشرق الأوسط
على عكس ما كان عليه الوضع سابقًا، لم تعد أوروبا قادرة على لعب دور الوسيط النزيه في ملفات الشرق الأوسط. تجاهلتها طهران، وازدراها حلفاؤها، فيما بدأت موسكو تطرح نفسها – بسخرية لاذعة – كبديل محتمل في الوساطة. أما واشنطن، فلا تبدي أي اهتمام بإعادة أوروبا إلى طاولة القرار.
وهكذا، خسرت أوروبا أوراقها في غزة، وفقدت تأثيرها على إسرائيل، وفشلت في كسب ثقة إيران أو حتى ضمان احترام القانون الدولي.
الخطر الحقيقي… في جوارها الجنوبي
رغم أن الحرب في أوكرانيا تبقى التهديد الأمني الأكبر لأوروبا، إلا أن انفجار الأوضاع في الشرق الأوسط يحمل مخاطر أكثر مباشرة على القارة العجوز: من موجات لجوء جديدة، إلى تصاعد الإرهاب، وانهيار محتمل للاتفاقات النووية، وكلها تهديدات لا تمس الأمن الأوروبي فحسب، بل استقراره الداخلي أيضًا.
ومع ذلك، لم تظهر أوروبا حتى الآن أي إشارات إلى أنها قادرة على التفكير – أو التحرك – خارج فلك واشنطن.