هل تحتاج أوروبا إلى “مانهاتن” خاص بها؟ سباق الذكاء الاصطناعي الدفاعي بدأ بالفعل
أوروبا تحتاج إلى "مشروع مانهاتن" خاص بها في الذكاء الاصطناعي الدفاعي

في خضم تحولات جيوسياسية وتكنولوجية كبرى، تستعد دول “الناتو” لما يشبه الزلزال الاستراتيجي. وبالنسبة لحلفاء أوروبا، هذه لحظة حاسمة: إما أن يعيدوا تشكيل عقيدتهم الدفاعية ليقودوا مستقبل الحروب، أو يظلوا في موقع رد الفعل. لكن لتحقيق “النهضة الصناعية” التي دعا إليها الأمين العام للناتو، لا يكفي فقط زيادة الإنفاق الدفاعي، بل يجب أن يقترن ذلك بقيادة حقيقية في مجال التكنولوجيا المتقدمة.
أوروبا تنفق أكثر… لكن بلا بوصلة تكنولوجية
صحيح أن أوروبا ستتجاوز الولايات المتحدة هذا العام من حيث حجم الإنفاق الدفاعي، وقد بدأت معظم الدول الأوروبية بالاقتراب من تخصيص 3.5% من ناتجها المحلي الإجمالي للقطاع الدفاعي، لكن المشكلة تكمن في غياب رؤية تكنولوجية استراتيجية واضحة توجه كيفية استثمار هذه الأموال.
في المقابل، اعتمدت أمريكا لعقود على ما يسمى “استراتيجيات التعويض التكنولوجي” التي تُعزز تفوقها العسكري رغم تفوق خصومها العددي أو الجغرافي. واليوم، ومع تحول تركيز واشنطن نحو الصين، أصبح السباق الأمريكي في الذكاء الاصطناعي دفاعيًا أكثر من أي وقت مضى، من خلال شراكات قوية مع شركات ناشئة عملاقة مثل Palantir وAnduril، إلى جانب مختبرات الذكاء الاصطناعي الكبرى.
أوروبا تركض في سباق خاسر مع روسيا
بينما تطور أمريكا جيشًا قائمًا على “الكتلة الذاتية” من الطائرات المسيرة منخفضة التكلفة والمدعومة بالذكاء الاصطناعي، لا تزال أوروبا عالقة في نموذج الحرب الباردة القائم على عدد السفن والدبابات والصواريخ. وإن دخلت في سباق تسلح تقليدي مع روسيا – الدولة التي تتقن الإنتاج الكمي – ستخسر حتمًا.
رغم الدروس المؤلمة من حرب أوكرانيا وثورة الطائرات المسيّرة، لا تزال هناك فجوة واسعة بين ما تنوي أوروبا إنفاقه، وما تتطلبه أهداف الناتو على الأرض. ما لم تُسد هذه الفجوة بسرعة، فلن تتمكن أوروبا لا من ردع روسيا، ولا من استعادة قاعدتها الصناعية، ولا من تحقيق الاستقلال الاستراتيجي.
أوروبا بحاجة إلى “مانهاتن الذكاء الاصطناعي”
يجب أن تُعامَل ثورة الذكاء الاصطناعي اليوم كما عوملت ثورة الأسلحة النووية في أربعينيات القرن الماضي. الفرق الوحيد أن وتيرة التطور الآن أسرع بكثير، والحواجز أمام الدول أقل بكثير. الطفرة الأخيرة في نموذج الذكاء الاصطناعي الصيني “DeepSeek” القريب من أداء GPT-4 تؤكد أن التقدم التقني لم يعد محصورًا في نادي ضيق.
ولحسن الحظ، فإن إنشاء مشروع أوروبي دفاعي في الذكاء الاصطناعي لا يتطلب ميزانية فلكية. فقد كلّف مشروع “مانهاتن” الأمريكي الأصلي – الهادف لتطوير السلاح النووي – ما يعادل 75 مليار يورو حاليًا، أي أقل من خمس ميزانية الدفاع الأوروبية لعام 2024 وحده.
شراكة حكومية-خاصة.. لا مجال للبيروقراطية
على عكس النموذج الأمريكي السري في الحرب الباردة، فإن الابتكار اليوم يحدث داخل القطاع الخاص. لذلك يجب أن يبنى المشروع الأوروبي الجديد على شراكات قوية بين الحكومات والشركات الناشئة ومعاهد البحث، تمامًا كما تفعل أمريكا.
ويجب أن يُركز هذا المشروع على أربعة محاور رئيسية:
الكتلة المسيّرة (Drone Mass): دروس أوكرانيا أثبتت فعالية الاعتماد على أسراب الطائرات المسيرة. يجب تعميم التجربة على الجبهة الشرقية للناتو لمواجهة تكتيكات “الكتلة البشرية” الروسية.
الهيمنة الجوية دون طيار: المقاتلات التقليدية باهظة ومهددة. أوروبا تحتاج إلى تطوير أسراب من طائرات قتالية غير مأهولة، مدعومة بالذكاء الاصطناعي، لتحقيق التفوق الجوي.
الرؤية البحرية العميقة: عبر نشر واسع لأجهزة استشعار بحرية ذكية، يمكن كشف الغواصات والتصدي لأي تخريب للبنية التحتية تحت الماء.
تفوق فضائي سيادي: أوروبا بحاجة إلى نظام أقمار صناعية حديث، مدعوم بالذكاء الاصطناعي، يوفر رصدًا دقيقًا وقرارات آنية في ميدان القتال.
لا نحتاج لمزيد من “النية الحسنة”.. نحتاج للقدرة
هذا ليس نداءً للتسلح الأعمى بالذكاء الاصطناعي، بل دعوة لقيادة ديمقراطية مسؤولة في توجيه تطوره ضمن أطر قانونية وأخلاقية. لكن القيادة تتطلب قدرة. فإذا لم تحدد أوروبا بنفسها قواعد استخدام الذكاء الاصطناعي الدفاعي، فإن خصومها سيفعلون.
والخطر الحقيقي أن تصبح الجيوش الأوروبية تحت رحمة تكنولوجيا لم تصنعها، تنفذ أوامر صاغها آخرون، وتُهزم بأسلحة كان يمكنها امتلاكها… لو لم تتأخر في التحرك.
أوروبا تملك العقول والمال.. ينقصها الجرأة
كثير من عباقرة الذكاء الاصطناعي الأوروبيين هم من يقودون مختبرات الشركات الأمريكية الكبرى. ما ينقص أوروبا ليس الكفاءة، بل التمويل والتوجيه. إذا أرادت القارة حماية نفسها وقيمها، فعليها أن تتحرك الآن.
أوروبا تملك العقول. وتملك الميزانيات. ما ينقصها فقط هو الجرأة لدمجهما معًا.