حوادث وقضايا

التحليق في عصر النزاعات:كيف اصبحت الحروب تهديدا خفيا للطيران المدني

تهديدات خفية في الأجواء: كيف تؤثر الحروب على سلامة الطيران المدني؟

في زمن تتسع فيه رقعة النزاعات وتضيق فيه مسارات الطيران الآمن، لم تعد السماء كما كانت. ففي أثناء رحلة عادية على ارتفاع شاهق فوق إسرائيل، لاحظ طاقم طائرة تجارية أن ساعة الطائرة بدأت تدور للخلف. وعندما تحقّقوا من نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، أظهرت الأجهزة أن الطائرة تحلق على ارتفاع 1,500 قدم فقط، رغم أنها في الواقع كانت على ارتفاع 38,000 قدم. بعد لحظات، انطلقت صفارات الإنذار في قمرة القيادة، وانبعثت أضواء التحذير في كل الاتجاهات، لتنذر بوجود تضاريس جبلية قريبة وشيكة الاصطدام.

لكن قائد الطائرة لم يستجب. لم يكن ذلك إهمالًا، بل وعيًا متقدمًا بأن هذه التحذيرات قد تكون زائفة نتيجة لما يُعرف بـ”خداع نظام تحديد المواقع”، وهي إحدى الظواهر الجديدة التي باتت تشكّل تهديدًا متزايدًا في عصر تصاعدت فيه النزاعات الإقليمية وفشلت فيه الدبلوماسية العالمية في تهدئة التوترات.

خريطة جوية تتغيّر بفعل الحروب

منذ الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا عام 2022، ارتفعت نسبة الأراضي التي تشهد حروبًا حول العالم بنسبة 65%، وهو ما يعادل ضعف مساحة الهند تقريبًا. نتيجة لذلك، اضطرت شركات الطيران إلى تعديل مساراتها أو إلغاء بعض الرحلات بالكامل لتفادي المناطق الساخنة مثل أوكرانيا والشرق الأوسط وميانمار وأجزاء من إفريقيا.

العديد من شركات الطيران الغربية لم تعد قادرة على التحليق فوق روسيا، مما أجبرها على اتخاذ مسارات أطول وأكثر تكلفة. فمثلًا، ألغت شركتا “بريتيش إيرويز” و”فيرجن أتلانتيك” رحلاتهما المباشرة بين لندن وبكين.

 

وفي الشرق الأوسط، زادت المخاطر بشكل أكبر. فقد أصبح الطيارون يتشاركون المجال الجوي مع الطائرات المسيّرة والصواريخ، بل أن بعض الركاب أصبحوا يرون تلك المقذوفات بأعينهم من نوافذ الطائرة. ومع تصاعد التوترات بين إيران وإسرائيل مؤخرًا، أُجبرت أكثر من عشرين رحلة على تغيير مساراتها بعيدًا عن الخليج، فيما ألغت شركة “إير إنديا” جميع رحلاتها المتجهة إلى أوروبا وأمريكا الشمالية.

كلفة مالية وبيئية باهظة

وفقًا لفكتوريا إيفانيكوفا، أستاذة إدارة الطيران في جامعة دبلن، فإن الرحلات بين هلسنكي وطوكيو، على سبيل المثال، أصبحت تستغرق ثلاث ساعات ونصف أكثر من السابق. هذا التمديد يعني استهلاكًا أكبر للوقود وزيادة في انبعاثات الكربون.

وتوضح إيفانيكوفا أن تكلفة بعض الرحلات ارتفعت بين 19% و39%، بينما زادت الانبعاثات بنسبة قد تصل إلى 40%.

من ماليزيا إلى كازاخستان: الطائرات تحت النار

لم تعد الأخطار حكرًا على مناطق القتال فقط. ففي عام 2014، أُسقطت طائرة الخطوط الماليزية MH17 فوق شرق أوكرانيا، بعدما اعتقد الانفصاليون أنها طائرة عسكرية. وفي ديسمبر الماضي، سقطت طائرة أذربيجانية في كازاخستان، وقُتل 38 شخصًا، بسبب إصابتها بصاروخ أطلقته الدفاعات الجوية الروسية عن طريق الخطأ.

حتى بعيدًا عن مناطق الصراع، باتت التدريبات العسكرية المفاجئة تهديدًا للطائرات. ففي فبراير، اضطرت طائرات تحلّق بين أستراليا ونيوزيلندا إلى تغيير مسارها بسبب تدريبات عسكرية صينية في بحر تسمان.

حرب إلكترونية في السماء: “خداع الـGPS”

خلال عام 2024، شهد العالم ارتفاعًا هائلًا في حالات خداع نظام تحديد المواقع، أو ما يُعرف بـGPS Spoofing. تشير بيانات مجموعة “Ops Group” إلى أن هذه الحالات ارتفعت بنسبة 500%، بمعدل 1,500 طائرة متأثرة يوميًا، خصوصًا فوق مناطق الصراع مثل شرق المتوسط، والبحر الأسود، وحدود الهند وباكستان.

يقوم هذا النوع من الخداع ببث إشارات زائفة للطائرات، فتظن الأنظمة الداخلية أنها في موقع مختلف. يقول أحد الطيارين: “المشكلة ليست في الخداع نفسه، بل في تأثيره النفسي على الطاقم، الذين باتوا يتجاهلون تحذيرات الأنظمة بشكل متزايد”.

ويحذر الطيار المتقاعد مايك ثروور من أن الطيارين أصبحوا أكثر تقبلًا لتحذيرات خاطئة، مما يخلق ما يسميه بـ”تطبيع الانحراف عن القواعد”. فالاعتماد الكامل على أنظمة GPS يعني أن أي خلل يمكن أن يؤثر على منظومة الطيران بأكملها.

تحديات متراكمة ومسؤوليات ثقيلة

ورغم هذه المخاطر، لا يزال الطيران التجاري آمنًا. إلا أن الضغوط النفسية والتقنية على الطيارين تتزايد، خاصة في ظل الطيران فوق مناطق تعتبر “آمنة” بفارق ألف قدم فقط عن خطوط النار. يقول أحد الطيارين: “نحن بشر. وعندما تكون على ارتفاع 34 ألف قدم فوق منطقة تم تصنيفها بأنها آمنة فوق 33 ألفًا فقط، لا يسعك إلا أن تتساءل: هل هذا الألف كافٍ فعلًا؟”.

لكن رغم كل شيء، تبقى رسالة الطيارين واحدة: “نحن هنا لنُبقي الطيران آمنًا مهما تغيّرت قواعد اللعبة في السماء”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى