مرأة ومنوعات

“الأمومة” بريشة كارولين ووكر: حين تصبح رعاية الطفل عملاً فنياً وموقفاً سياسياً

الفنانة "كارولين ووكر" تجسد لحظات الأمومة من خلال لوحاتها

في عالم غالبًا ما يتجاهل التفاصيل اليومية التي تشكل نسيج الحياة، تفتح الفنانة الاسكتلندية كارولين ووكر نافذة نادرة على الطقوس الخفية للعناية بالأطفال، داخل البيوت والمشافي ودور الحضانة. في معرضها الأحدث “Mothering”، الذي يُعرض حاليًا في هيبروث ويكفيلد في يوركشاير، تعيد ووكر رسم المشهد الفني البريطاني، لا عبر صور بطولية أو أفكار تجريدية، بل من خلال مشاهد دقيقة، مألوفة، ومؤثرة لأمهات ومربيات وقابلات وجدات، منشغلات في أعمال يومية قد تبدو عادية، لكنها جوهرية في تكوين الحياة.

هذا المعرض، الذي يُعد أكبر معرض فردي لها حتى الآن، لا يحتفي بالأمومة كمفهوم بيولوجي فقط، بل يستكشف فعل الرعاية في أوسع معانيه: المتكرّر، المرهق، المحب، وغير المرئي غالبًا.

مشاهد الحياة الأولى: الرضيع كموضوع فني

تبدأ ووكر سلسلتها من داخل المنزل، حيث تصور لحظات أولى في حياة ابنها “لوري”. في ثلاث لوحات زيتية صغيرة، نرى الطفل في أسبوعه الأول، ثم في شهره الرابع، ثم في شهره الثامن. بين الوزن على الميزان، والتجرد من الملابس، والجلوس على حضن امرأة تدعى “سارة”، وهي زائرة صحية، توثق ووكر هذا التفاعل بين الطفل والمرأة. وفي حين أن سارة ليست والدة الطفل، إلا أن حنانها وخبرتها يشيران إلى فعل رعاية أصيل يتجاوز الروابط البيولوجية.

الفنانة خارج الإطار: نظرة مزدوجة على الأمومة والفن

في لوحة “سارة توزن لوري، 4 أسابيع”، يظهر في مرآة فوق المدفأة وجه المرأة الحقيقي: كارولين ووكر، تقف بالكاميرا، تراقب وتسجل. بهذا التكوين، تشير ووكر إلى نفسها لا فقط كأم، بل كـفنانة عاملة، تراقب لحظة الرعاية وتحولها إلى موضوع فني. هناك مسافة واعية بينها وبين المشهد، مما يمنح اللوحة بعدًا نقديًا، ويعكس إدراكها للتوتر بين الأمومة كتجربة شخصية والعمل الإبداعي كمهنة تتطلب الحضور والتأمل والانعزال.

من البيت إلى الحضانة: الفن في مواقع الطفولة المبكرة
تمتد عدسة ووكر إلى دور الحضانة. في لوحتها “صباح في Little Bugs”، تصور أطفالًا تحت ظل أشجار، يلعبون ويكتشفون عالمهم الصغير. في “اللعب الحسي”، الضوء البنفسجي والبريق اللؤلؤي للكرات البلاستيكية يمنحان المشهد طابعًا سحريًا. الرسم هنا لا يتعلق بالأطفال فقط، بل بالمربيات أيضًا — نساء يعملن في الظل، يشكّلن تجارب الطفولة المبكرة دون أن يُذكرن.

الرعاية كعمل… غير مرئي

 

طوال مسيرتها، كانت ووكر مهتمة بتصوير النساء العاملات: من عاملات التنظيف إلى مصففات الشعر. في هذا المعرض، تنقل هذا الاهتمام إلى عالم الطفولة، لتطرح سؤالًا جوهريًا: لماذا يُنظر إلى الرعاية كأمر طبيعي متوقع من النساء، لا كعمل يتطلب المهارة والتفاني؟ عبر هذه الأعمال، يصبح تغيير الحفاضات، أو قراءة قصة، أو غسل شعر طفلة، أفعالًا تستحق التوثيق والتأمل الفني.

“ليزا”: ولادة جديدة لحيّز فني

في سلسلة موازية، تصور ووكر شقيقتها بالزواج، ليزا، قبل وبعد الولادة. في “المرطبات”، نراها منحنية على الأرض بجانب رضيعها، لكن التركيز لا يقع على العلاقة الحميمة بقدر ما يقع على تفاصيل الطاولة المزدحمة: أكواب نصف ممتلئة، مناديل، هواتف. بهذه الطريقة، ترصد ووكر التغيّر البصري والوظيفي للمساحات المنزلية بفعل قدوم طفل.

ظلال الليل والوحدة

في لوحة “الرضاعة الليلية 1″، تسكن اللوحة في هدوء الليل. ليزا ترضع طفلها أمام نافذة دون ستائر، والضوء البرتقالي من الخارج يضفي على المشهد إحساسًا بالوحدة المألوفة. فرشاة ووكر تصبح أكثر انسيابية، وكأنها توثق لا لحظة واحدة، بل زمنًا بأكمله يمر بين غفوة وأخرى. الوقت هنا لا يُقاس بالساعات، بل بالتكرار والتعب والحب المستمر.

من العناية الطبية إلى غرفة العمليات

إحدى أكثر لوحات المعرض تعقيدًا تركيبًا هي “غرفة العمليات”، المستوحاة من إقامة ووكر كفنانة مقيمة في جناح الولادة بمستشفى UCLH بلندن. في هذه اللوحة، نرى الأطباء والممرضات يحيطون بالأم والرضيع. التكوين يشبه مشهدًا مسرحيًا دقيقًا، تتركز فيه الحياة في نظرة الأم نحو مولودها. إنه مشهد عن الدقة الطبية، لكن أيضًا عن الحب في لحظاته الأولى.

الرسم بوصفه توثيقًا للعناية المشتركة

في رسوماتها بالحبر التي توثق جولات الممرضات بعد الولادة، تنجح ووكر في التقاط لمسات الرعاية: طريقة تغيير الحفاض، تعليم الرضاعة، فحص صغير لجسم هش. كل رسمة منها تقول: هذه اللحظات، وإن بدت عابرة، هي أساس الحياة. ووكر لا ترسم بطلات، بل نساء عاديات في لحظات استثنائية من التفاني.

فن “اللعب” وسياسات الطفولة المبكرة

لوحات الحضانة عند ووكر ليست فقط مشاهد جميلة، بل رسائل سياسية أيضًا. فكما تقول القيّمة الفنية هاتي جودا، فإن تصوير بيئات الطفولة المبكرة هو فعل مقاومة في زمن يُستبعد فيه التعليم الفني من المدارس. الرسم هنا ليس فقط عن الأطفال، بل عن حقهم في الجمال والخيال واللمس واللون.

الجدّات والرعاية العابرة للأجيال

في لوحات مثل “دفتر الملصقات” و”صالون شعر الجدة”، نرى جانيت — والدة ووكر — تجلس مع حفيدتها، تمشط شعرها، تلعب معها. هذه الأعمال هي الأكثر حميمية في المعرض، تأملات في الرعاية التي تمتد عبر الأجيال، من الأم إلى الابنة إلى الحفيدة. إنها ليست فقط لحظات حب، بل لحظات استمرارية، توثق كيف تُبنى الحياة من أيادٍ عديدة، بهدوء وصبر.

خاتمة: الفن كعناية متبادلة

لا ترى ووكر في لوحاتها أفعالًا راديكالية، لكنها كذلك، لأن ما تختاره للرسم — حضانة، ممرضة، أم متعبة — لم يكن يومًا من الموضوعات الكبرى في تاريخ الفن. إنها تحتفي بما هو مهم حقًا: الرعاية. في عالم يمجّد الإنتاجية، تذكّرنا ووكر بأن العناية، وإن كانت مرهقة ومتكررة وغير مرئية، هي ما يبقينا أحياء. الفن، مثل الأمومة، هو فعل حب يتطلب الانتباه والمثابرة والاحترام.

الجارديان | هل يجب أن نتشارك المناشف داخل الأسرة؟ بين نظافة الفرد وهموم البيئة

رحمة عماد

صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى