الوكالات

حين يُصبح التفكير السحري سياسة مناخية: هروب المحافظين من مواجهة أزمة المناخ

السياسة بين الإنكار والتسويف: أزمة المناخ تفضح هشاشة الخطاب المحافظ»

بينما يشهد العالم موجات حر قياسية ويشتد الضغط البيئي على الاقتصادات والبنى التحتية، تتبنى بعض الأوساط اليمينية، وخصوصًا في أوروبا، خطابًا جديدًا مثيرًا للقلق: نعم، تغيّر المناخ حقيقي، نعم، البشر مسؤولون عنه، ولكن لا جدوى من محاولة الدول الأوروبية الصغيرة التصدي له. هذا المنطق، الذي عبرت عنه وزيرة الأعمال البريطانية كيمي بادينوك، يضعنا أمام حالة نموذجية من “التفكير السحري”، حيث تتبنى النخب السياسية الاعتراف بالأزمة، لكنها ترفض تبعاتها العملية.

 

نتائج العجز عن بلوغ الحياد الكربوني

 

من وجهة نظر عقلانية، قد يبدو التشكيك في إمكانية الوصول إلى “صفر انبعاثات” بحلول منتصف القرن مقبولًا. فالتحديات التقنية والسياسية هائلة، والتقدم في الطاقات المتجددة لا يضمن وحده تحوّلًا جذريًا على مستوى العالم. لكن الإشكال لا يكمن في هذا الشك المشروع، بل في النتيجة التي تترتب عليه: استنتاج أن أوروبا يجب أن تتوقف ببساطة عن المحاولة، وأن تبني سياساتها وكأن المعركة قد حُسمت سلفًا بالخسارة.

 

التهرب من الكلفة الآن يعني دفع أكثر لاحقًا

 

المكتب البريطاني للمسؤولية المالية أوضح مؤخرًا أن كلفة التقاعس عن التحوّل نحو الطاقة النظيفة أعلى بكثير من كلفة تحقيق الحياد الكربوني. هذا ليس مجرد تحذير بيئي، بل تقدير اقتصادي واضح. وفي حال استسلمت الدول المتقدمة الآن، فستضطر لاحقًا لدفع أثمان مضاعفة في مجالات التأمين، والرعاية الصحية، والهجرة، وإعادة بناء البنية التحتية المتضررة. المنطق السليم يقول إن المطلوب هو سياسات تجمع بين التخفيف من الانبعاثات والتكيّف مع واقع أكثر حرارة، لا تجاهله كليًا.

 

البنية التحتية الأوروبية ليست مهيأة للغد

 

في المملكة المتحدة، المباني، ومحطات الطاقة، وحتى شبكات النقل مصممة لعقود مضت، لم تكن فيها درجات الحرارة تتجاوز الثلاثين كثيرًا. استمرار هذا النهج السياسي الذي ينكر الواقع سيتسبب في كارثة حضرية وصحية مع كل صيف قادم. لا يمكن للمباني المصممة للمناخ المعتدل أن تصمد أمام موجات حر متكررة دون استثمارات ضخمة في التبريد، والعزل، وإعادة تصميم المدن. تجاهل هذه الحقيقة بدعوى “أننا بلد صغير لا يمكنه إنقاذ الكوكب” هو ببساطة شكل آخر من أشكال التهرب.

 

المزج بين الإنكار والمثالية المضللة

 

ما يروّج له بعض منتقدي سياسات المناخ لا يعدو أن يكون مزيجًا من الإنكار الجزئي والمثالية المضللة. فهم لا يطالبون بزيادة الاستثمار في التكيّف المناخي، ولا بتطوير نظم الإنذار المبكر أو تعزيز شبكات الصحة العامة، بل يطرحون – ضمنيًا – خيارًا ثالثًا: ألا نفعل شيئًا. وهو خيار مكلف سياسيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا.

 

الشيخوخة السكانية: أزمة متداخلة ومسكوت عنها

 

أزمة المناخ ليست الوحيدة التي تواجهها الدول الغربية، بل هناك أيضًا الشيخوخة الديموغرافية، التي تقلص حجم القوة العاملة وتزيد الضغط على أنظمة التقاعد والرعاية الصحية. ومع ذلك، يتجنب السياسيون هذه القضايا لأنهم لا يريدون الدخول في حوارات غير شعبية حول رفع الضرائب أو فتح أبواب الهجرة. كما هو الحال مع المناخ، التفكير السحري يغريهم بالهروب نحو مواضيع أسهل وأقل تكلفة انتخابية.

 

الرغبة في السياسة لا تعني إدارة الأزمات

 

غالبية السياسيين لا يدخلون الساحة العامة ليكونوا مديرين للأزمات، بل بدافع الإيمان بقضايا اجتماعية أو اقتصادية. ولكنهم يجدون أنفسهم أمام أزمات وجودية تفرض عليهم أعباءً تتعارض مع رغباتهم الأصلية. لهذا يغريهم التخلص من هذه الأعباء عبر الإنكار أو التسويف، وهو ما نراه في الخطاب اليميني بشأن المناخ.

اقرأ أيضاً اختبار نادر لمساءلة مجلس الإدارة: محاكمة “ميتا” تفتح الباب لمحاسبة الكبار

الهروب إلى الأمام ليس واقعية سياسية

 

السياسيون الذين يرفضون مواجهة التغير المناخي بحجة أنه “أكبر من قدرتنا على التأثير” لا يمارسون الواقعية، بل يروجون لوهم قاتل. الواقعية الحقيقية تبدأ بالاعتراف بحدود القدرة، لكنها لا تتوقف عند ذلك، بل تبني سياسات شجاعة لحماية المجتمعات من التبعات الأشد. التخلي عن هذا الواجب بدعوى “البراغماتية” هو في حقيقته موقف أيديولوجي، ولكنه أيديولوجيا التهرب والتسويف.

 

الضغوط لن تنتظر أحدًا

 

سواء تعلق الأمر بالمناخ أو بالشيخوخة السكانية، فإن التغيرات قادمة – وبسرعة. لا يمكن للحكومات أن تؤجل قراراتها إلى أجل غير مسمى. فكل صيف جديد يحمل معه ضحايا من المسنين، وانهيارًا في شبكات الكهرباء، وأزمات غذائية، واحتجاجات شعبية. وكل عام يتقدم فيه جيل نحو التقاعد بدون خطط واضحة سيكون عبئًا ماليًا جديدًا. السياسات الواقعية ليست تلك التي ترضي الناخب في المدى القصير، بل التي تحمي المجتمع من الانهيار في المدى البعيد.

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى