هيلدغارد فون بينغن: من رؤى سماوية في دير ألماني إلى أيقونة في الموسيقى التجريبية المعاصرة
كانيل فتختم: "في زمن كانت تُقمع فيه النساء، نجد في هيلدغارد شخصية ملهمة، صنعت، وأثرت، وتواصلت... عبر قرون من الصمت"

في زمن تسوده الفوضى والاضطراب، تلجأ العديد من الأصوات الموسيقية المعاصرة إلى ماضٍ بعيد وغير متوقع: إلى صوت راهبة ألمانية من القرن الثاني عشر، تُدعى هيلدغارد فون بينغن، عرفت برؤاها الصوفية وموسيقاها السماوية، والتي أعادت تشكيل علاقة البشر بالإلهي والجميل.
لقد ألهمت هذه العالمة والقديسة والفنانة المتعددة المواهب، أجيالًا من المفكرين والكتّاب والموسيقيين، من ديفيد لينش وGrimes، وصولًا إلى ملحنين تجريبيين في مهرجانات معاصرة. لكنها الآن، بعد ما يقرب من تسعة قرون على وفاتها، تعود إلى الواجهة كرمز فني وموسيقي، وكنموذج نسوي وروحي يتحدى الزمن.
صوتٌ يخرج من الضباب: بدايات رؤيوية
ولدت هيلدغارد فون بينغن عام 1098 في منطقة الراين الألمانية لعائلة نبيلة، وأظهرت منذ سن الثالثة ميولًا لرؤى غامضة، اعتبرها البعض لاحقًا أعراضًا عصبية (كما افترض عالم الأعصاب أوليفر ساكس)، لكنها كانت بداية مسار فريد. حين أصبحت رئيسة دير في الأربعين من عمرها، أطلقت العنان لموهبتها الخلاقة، فكتبت موسيقى، ومسرحًا دينيًا، وكتبًا في الطب والفلسفة واللاهوت، وألّفت 77 ترنيمة روحية ضمن عملها الشهير Symphonia.
موسيقى تحلق فوق الزمن واللغة
ما يميز موسيقى هيلدغارد هو طابعها الحر والبنيوي في آنٍ واحد، فهي لا تخضع للقواعد الكلاسيكية المعتادة، بل تتصاعد وتتماوج كأنها طير يحلّق في الأفق، كما تصفها المؤرخة فيونا مادوكس. موسيقاها تبدو أقرب إلى الارتجال، غنية بالتدرجات الصوتية التي تتجاوز حدود الألحان المألوفة، وذات بنية مفتوحة تتيح للمؤدين المعاصرين حرية إعادة التفسير.
جاذبية غامضة لفنانات الحاضر
تقول المغنية الأمريكية جوليا هولتر إن ما جذبها في موسيقى هيلدغارد هو استخدام الملوزمات (melismas) في تنغيم الكلمات، ما يخلق “عالماً لحنياً متفرداً”. أما الموسيقية التجريبية لورا كانيل فتصف علاقتها بأعمال هيلدغارد بأنها “قريبة من الوقوع في الحب”. وتضيف: “أجد في موسيقاها النور والظلام معًا… هي الرفيقة المثالية للحياة”.
إرث يتجدد: من Burning Man إلى Netflix
في السنوات الأخيرة، استخدم موسيقيون من مختلف الاتجاهات أعمال هيلدغارد كأساس لتجاربهم: فرقة Tarta Relena الكتالونية، الثنائي الجاز نواه بريمينغر وروب غارسيا، والمغنية ديزي بريس التي دمجت أعمالها مع الموسيقى الهندوستانية. حتى ديفيد لينش أنتج ألبوماً لموسيقاها في التسعينات. أما Grimes، فحبست نفسها في عزلة صوفية أثناء إعداد ألبومها “Visions” عام 2012، أسوة بهيلدغارد في ديرها.
نجاح غير متوقع… بعد 800 عام
نقطة التحول الجماهيري كانت في عام 1985، حين صدر ألبوم A Feather on the Breath of God الذي حقق نجاحًا مذهلًا رغم التوقعات المتواضعة، وظل يُعاد إصداره حتى يومنا هذا. وبلغ تأثيره أن بعض مقطوعاته تم استخدامها في موسيقى الرقص الإلكتروني من قبل فرق مثل Orbital وThe Beloved.
هل كتبتها حقًا؟ سؤال الحداثة أمام لغز العصور الوسطى
رغم شهرتها كمؤلفة موسيقية، لا يزال هناك نقاش حول ما إذا كانت هيلدغارد قد كتبت موسيقاها فعلًا، أم أنها نُسبت إليها بصفتها رئيسة الدير. تقول مادوكس: “حتى لو لم تكتبها بيدها، فإننا نقبل أعمالًا مجهولة أخرى كجزء من التراث، فلماذا لا نفعل الأمر نفسه هنا؟”.
رؤى نسوية وصوفية… تتحدى الأعراف
بعض القراءات الحديثة تعتبر هيلدغارد أيقونة نسوية ورمزًا كويريًا، بسبب طريقتها في التعبير عن حبها للنساء من رفيقاتها. وقد ألهمت رؤاها الغامضة فنانة الأداء والموسيقية نواندو إبيزي لإنشاء أوبرا تجريبية بعنوان “Hildegard: Visions”، تربط فيها بين رؤاها وبين اضطرابات عصبية معاصرة مثل “الثلج البصري”.
قديسة المستقبل: صوت ما بعد الزمن
ما يجعل هيلدغارد مستمرة في الإلهام هو خروجها عن الأعراف. كما تقول جوليا هولتر: “الرؤيويون يفعلون أشياء خارج التقليد، ولهذا تبدو أعمالهم خالدة”. أما كانيل فتختم: “في زمن كانت تُقمع فيه النساء، نجد في هيلدغارد شخصية ملهمة، صنعت، وأثرت، وتواصلت… عبر قرون من الصمت”.