روليت الرسوم الجمركية:داخل مفاوضات ترامب التجارية الفوضوية التي هزت الاقتصاد العالمي
"ترامب والرسوم الجمركية: مفاوضات فوضوية تغير قواعد اللعبة التجارية العالمية"

في الأول من أغسطس، قلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب موازين التجارة العالمية بإعلان حزمة واسعة من الرسوم الجمركية الجديدة، في خطوة مثيرة للجدل رافقتها لحظة استعراضية في البيت الأبيض تضمنت حديثًا عن قاعة احتفالات جديدة ورياضات شهيرة. وبينما كان العالم يترقب تفاصيل الاتفاقات الموعودة، ظل الغموض سيد الموقف، إذ لم تُعلن أي صفقات جديدة رغم تصريحات ترامب الموحية بعكس ذلك. وجاءت هذه الخطوة بعد أشهر من نهج متقلب في السياسة التجارية، بدأ بـ“يوم التحرير” في أبريل، مرَّ بفرض رسوم ثم تعليقها، وتصعيد الحرب التجارية مع الصين قبل العودة إلى هدنة مؤقتة، وتوجيه تهديدات متكررة لشركاء رئيسيين دون التوصل إلا لجزء يسير من الصفقات الموعودة. هذه الفوضى، التي مزجت بين الحسابات الاقتصادية والمكاسب السياسية، أثارت قلق الحلفاء وأربكت الأسواق العالمية.
تفاوض حتى اللحظة الأخيرة وضبابية في القرارات
حتى الساعات الأخيرة قبل إعلان القرارات التنفيذية، لم يكن مستقرًا في ذهن ترامب من سيعاقب بالرسوم ومن سيُستثنى. اجتمع كبار مستشاريه – وزير الخزانة سكوت بيسنت، ووزير التجارة هوارد لوتنيك، والممثل التجاري جيمسون جرير – لساعات في المكتب البيضاوي لوضع اللمسات النهائية. وفي الخارج، كان المفاوضون الأجانب والإعلاميون يتابعون منصته على “تروث سوشال” بحثًا عن أي إشارة. لكن الانفجار المفاجئ للإعلانات بعد السابعة والنصف مساء بتوقيت واشنطن فاجأ أكبر شركاء الولايات المتحدة، من الهند وتايوان إلى كندا، التي تُعد أكبر مصدر للنفط الخام لأمريكا. وعلى النقيض، استطاع بعض القادة، مثل الرئيسة المكسيكية كلوديا شينهباوم، تفادي الأسوأ عبر الاتصال المباشر بترامب، بينما فشل آخرون، مثل رئيس وزراء كندا مارك كارني، في الحصول حتى على رد مكالماتهم.
الدبلوماسية الشخصية ومفاتيح الدخول إلى الصفقة
أظهرت الأحداث أن الوصول المباشر إلى الرئيس كان العامل الحاسم في إنقاذ المفاوضات أو إفشالها. فقد تمكنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين من تأمين اتفاق أوروبي بعد لقاء شخصي مع ترامب في ملعبه للجولف في اسكتلندا، في مشهد اعتبره منتقدون إذعانًا غير مبرر. في المقابل، وجد مارك كارني نفسه خارج الدائرة بعد إعلان اعترافه بدولة فلسطين، وهو ما وصفه ترامب بأنه “يجعل من الصعب جدًا” إبرام اتفاق مع أوتاوا. أما البرازيل، فقد تلقت صدمة بفرض رسوم إضافية بلغت 40% بسبب تعاملها مع الرئيس اليميني السابق جايير بولسونارو، ما كشف عن أن الحسابات السياسية الداخلية والخارجية يمكن أن تطغى على أي منطق اقتصادي في قرارات الإدارة.
تأثيرات على الحلفاء والخصوم على حد سواء
لم تقتصر المفاجآت على الأصدقاء؛ فتايوان، أكبر مصدر لأشباه الموصلات في العالم، كانت على وشك اتفاق قبل شهر، لكن البيت الأبيض جمد العرض خشية التأثير على مفاوضات أكبر مع الصين واحتمال قمة بين ترامب وشي جينبينغ. النتيجة كانت فرض رسوم بنسبة 20% على تايبيه، فيما لجأ رئيسها إلى “فيسبوك” للتعهد بمواصلة التفاوض. الهند، من جانبها، استعانت بأحد مستشاري حملة ترامب السابقين لمحاولة التأثير عليه، لكنها فشلت في إقناعه بفتح أسواقها بما يكفي، ليتهم اقتصادها بالركود ويحذرها من عواقب علاقاتها مع موسكو. هذه القرارات تركت حلفاء تقليديين في موقف ضعيف، بينما عززت صورة ترامب كزعيم يستخدم قوة السوق الأمريكية لفرض أجندته.
استراتيجية التفاوض: مزيج من الخبرة المالية والصفقات السريعة
تألف فريق ترامب التفاوضي من شخصيات ذات أساليب متباينة: لوتنيك، رجل المال المندفع القادر على مجاراة أسلوب ترامب التبادلي، وجيمسون جرير، المحامي التجاري المخضرم والتلميذ السابق لمهندس السياسة التجارية بوب لايتهايزر، ووزير الخزانة سكوت بيسنت، الذي لعب دور المطمئن للمستثمرين العالميين رغم قلة ظهوره في الصفوف الأمامية للمفاوضات. الصفقات التي وُقعت انقسمت إلى نوعين: إما خفض الحواجز غير الجمركية التي تراها واشنطن معطلة للتجارة، أو “شراء” تخفيضات الرسوم عبر وعود باستثمارات ضخمة في الولايات المتحدة. لكن حتى هذه الصيغ ظلت رهينة لمزاج الرئيس، الذي أصر غالبًا على إتمام الصفقات بنفسه عبر مكالمات مباشرة مع قادة الدول.
نتائج غير مستقرة ومخاطر اقتصادية قائمة
في بعض الحالات، أسفرت الاجتماعات المتكررة، مثل زيارات المفاوض الياباني ريوسِي أكازاوا لواشنطن، عن اتفاقات بعد لقاء مباشر مطول مع ترامب، بينما اضطرت عواصم أخرى، مثل أوتاوا، للتعامل مع رسوم مرتفعة كأمر واقع، ومحاولة التفاوض مجددًا من موقع أضعف. ورغم أن ترامب تراجع أحيانًا عن بعض تهديداته، فإن كثيرًا من العواصم باتت مقيدة بمعدلات جمركية أعلى بفعل الاتفاقات الحالية. ويرى خبراء أن هذه الاستراتيجية، التي وصفها مستشارون سابقون بـ”الروليت الروسية” مع الاقتصاد العالمي، قد تحقق مكاسب آنية لواشنطن، لكنها تحمل مخاطر طويلة المدى على استقرار النظام التجاري الدولي وثقة الشركاء في التزامات الولايات المتحدة.