بوتين يتحدث عن «سلام مستقر »في اوكرانيا دون تقديم تنازلات
"بوتين يبحث عن سلام مستقر دون تنازلات"

في مشهد بات مألوفًا منذ بداية الحرب، تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن رغبته في «سلام دائم ومستقر» في أوكرانيا، لكنه لم يطرح أي مؤشرات على استعداده لتقديم تنازلات من شأنها فتح الباب أمام تسوية حقيقية. تصريحاته جاءت بعد سلسلة هجمات دموية شنتها القوات الروسية بالصواريخ والطائرات المسيّرة على العاصمة الأوكرانية كييف، خلفت ما لا يقل عن 31 قتيلًا بينهم خمسة أطفال، وأصابت أكثر من 150 آخرين، في واحدة من أكثر الهجمات فتكًا منذ أكثر من ثلاث سنوات من الحرب.
الإشارة إلى السلام تأتي هذه المرة وسط ضغوط أمريكية متصاعدة؛ فالرئيس الأمريكي دونالد ترمب أعلن أنه سيمنح روسيا وأوكرانيا مهلة تنتهي في 8 أغسطس للتوصل إلى اتفاق، وإلا فسيُفعّل حزمة عقوبات اقتصادية جديدة ضد موسكو. وفي حين يُتهم ترمب عادة بمواقفه المتساهلة مع الكرملين، فقد بدت لهجته هذه المرة أكثر حدة، واصفًا استمرار القصف الروسي على المدنيين بأنه «أمر مقزز».
تصريحات ترمب الأخيرة تعكس تحولًا ملحوظًا في موقفه، إذ قال مؤخرًا إنه «محبط» من بوتين، مضيفًا في مقابلة مع «بي بي سي» أن كل مرة يظن فيها أنه يقترب من إنهاء الحرب، يقوم الرئيس الروسي بـ«هدم مبنى في كييف».
لكن بوتين، الذي كان يتحدث من شمال روسيا إلى جانب حليفه البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، بدا وكأنه يرد بسخرية مبطنة على انتقادات ترمب، قائلاً: «جميع خيبات الأمل تنبع من التوقعات المبالغ فيها.. هذه قاعدة عامة معروفة».
بين الخطاب الدبلوماسي والتصعيد العسكري
حديث بوتين عن السلام يتناقض تمامًا مع الوقائع على الأرض. فالغارات الروسية على المناطق السكنية تواصلت بلا هوادة، وتحديدًا في حي سفياتوشينسكي في كييف، حيث انهار مبنى سكني من تسعة طوابق بعد أن استُهدف بصاروخ، في وقت كان الأطفال نيامًا والناس يحاولون النجاة تحت القصف.
ورغم تصريحات بوتين بأنه يريد محادثات «هادئة وخالية من الكاميرات»، فإن الجولة الثالثة من المفاوضات المباشرة بين موسكو وكييف، التي عقدت في إسطنبول الأسبوع الماضي، لم تدم سوى أقل من ساعة، وخرج منها الطرفان دون اتفاق يُذكر باستثناء بعض التفاهمات حول تبادل الأسرى.
من جهة كييف، لم تأتِ ردود الفعل على تصريحات بوتين بصيغة الرفض المباشر، بل جاءت مشروطة ومحمّلة بالتحذير. الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي يواجه ضغوطًا داخلية ودولية لتقديم نتائج في الملف التفاوضي، قال إنه لا يمانع لقاء بوتين شخصيًا «في أي وقت»، بشرط أن يكون هناك وسيط دولي مثل ترمب أو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مكررًا استعداده للحوار «إذا كانت لدى موسكو نية جادة لإنهاء الحرب بكرامة».
التمثيل الروسي المشارك في المحادثات يطرح أيضًا علامة استفهام حول نوايا الكرملين، إذ تقود الوفد شخصية غير سياسية رفيعة، هي فلاديمير ميدينسكي، وزير الثقافة السابق، والمعروف بكتاباته القومية. المتحدث باسم الرئاسة الأوكرانية، ميخايلو بودولياك، اعتبر أن إرسال ميدينسكي «ليس دليلًا على رغبة حقيقية في التفاوض»، بل مجرد محاولة «للترويج والدعاية وفرض الإملاءات».
مناورة سياسية أم توجه استراتيجي؟
تحليل ما يجري يكشف عن تناقض جوهري في المقاربة الروسية الحالية: فبوتين يريد أن يبدو كشريك راغب في السلام، لكنه يُصر على شروط لا تقبل بها أوكرانيا ولا المجتمع الدولي. كما يُنظر إلى دعوته الأخيرة على أنها مناورة لشراء الوقت، خاصة مع اقتراب الموعد الذي حدده ترمب، واحتمال فرض عقوبات أمريكية جديدة من شأنها أن تعمّق عزلة روسيا الاقتصادية.
في الوقت ذاته، يرى مراقبون أن بوتين يحاول عبر هذه اللهجة الجديدة كسب نقاط أمام الرأي العام الدولي، بالتزامن مع استنزاف طويل لأوكرانيا ميدانيًا، ومع إضعاف محتمل للدعم الغربي لكييف إذا طال أمد الحرب أكثر.
الخلاصة أن مشهد الحرب في أوكرانيا بات يراوح مكانه بين تصريحات متفائلة فارغة ومأساة إنسانية تتعمق يومًا بعد يوم. وبينما تلوح جولة عقوبات جديدة في الأفق، يبدو أن الحل السياسي لا يزال رهينة حسابات الكرملين وأجندة ترمب الانتخابية، وليس إرادة الشعبين الروسي والأوكراني.