
في صباح حارق من شهر أغسطس، ارتفعت طائرة عسكرية أردنية في الأجواء، محمّلة بثلاثة أطنان من المساعدات الإنسانية، فوق واحدة من أكثر البقاع دمارًا في العالم الحديث. وعلى متنها، جلس صحفيو “الغارديان” في مقاعدهم، ينظرون من نوافذ صغيرة على مشهد لا يشبه شيئًا سوى صور مدن قديمة دمّرها زلزال، أو أطلال حضارات اندثرت منذ قرون. ولكن هذا الدمار لم تخلّفه الطبيعة، بل صنعته حرب، وأحدثه قرار سياسي.
أرض مهجورة… تشبه حضارة منقرضة
من ارتفاع يقارب 2000 قدم (600 متر)، بدت غزة كأنها لوحة رمادية داكنة من الخراب المستمر. من الأعلى، يمكن رؤية الأحياء التي كانت ذات يوم تضجّ بالحياة، تحوّلت إلى شوارع متشققة، ومبانٍ منهارة، وأكوام من الركام المتناثر، تتخللها حفر ناتجة عن قنابل وراجمات صواريخ. الطرق لا تقود إلى مكان، والمباني بلا أسقف أو نوافذ، والحياة غائبة إلا من بضع ظلال لأشخاص يتحركون بين الأطلال كأشباح.
الممنوع المسموح: نظرة نادرة إلى المجهول
منذ السابع من أكتوبر 2023، أغلقت إسرائيل غزة بالكامل في وجه الصحفيين الأجانب، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ النزاعات المعاصرة. وحتى بعد تصاعد القتال، ظلّت غزة منطقة عمياء إعلاميًا، لا ينقل ما يجري فيها إلا من بقي من الصحفيين الفلسطينيين، الذين دفع أكثر من 230 منهم حياتهم ثمنًا للحقيقة. اليوم، وعلى متن طائرة الإغاثة الأردنية، أتيحت للمراقبين الدوليين أول فرصة لرؤية غزة بأعينهم – من الأعلى فقط، دون أن تطأ أقدامهم ترابها المحترق.
الدمار الذي لا يُغطّى
أثناء تحليق الطائرة فوق شمال غزة، يمكن بسهولة تحديد مناطق استُهدفت بهجمات شديدة التدمير: غزة سيتي، بيت حانون، جباليا، والنصيرات. من السماء، يُلاحظ كيف تحوّلت تلك المناطق إلى خرائط فارغة من الهندسة والهوية. كانت المدينة حاضنة لحياة مدنية نابضة؛ أسواقها كانت مزدحمة، وأطفالها يركضون بين الأزقة، وأصوات الباعة تعلو فوق كل شيء. أما الآن، فلم يتبقَ سوى أنقاض لا تحمل اسماً ولا عنواناً.
الإسقاطات الجوية… رمزية أكثر من كونها حلًّا
في مشهد تم التقاطه من الخلفية المفتوحة للطائرة، تسقط المساعدات بواسطة مظلات باتجاه الأرض. إنها محاولة إنسانية محفوفة بالقيود. وفقًا للجيش الأردني، نفذت قواته 140 عملية إسقاط، بالتعاون مع دول أخرى، لتصل كمية المساعدات إلى 325 طنًا منذ أواخر يوليو. ولكن، رغم كل هذا، فإن وكالات الإغاثة تقول إن ما يصل غزة من الغذاء بهذه الطريقة لا يكفي لأكثر من أربعة أيام، وهي نتائج مرعبة مقارنة بعدد السكان وحجم الحاجة.
الجوع… وجه آخر للموت
الجوع أصبح واحدًا من وجوه الحرب. أطفال يُغشى عليهم من الجوع، أطباء وممرضون ينهارون في المستشفيات، وآباء لا يجدون ما يطعمون به أبناءهم سوى قليل من الملح والماء. في أحد الرسائل، كتب طبيب تخدير من غزة إلى أحد الأطباء الأوروبيين قائلاً: “أطفالي لا يستطيعون الحركة من الوهن… يعانون من تقلصات ونسيان وفقدان التركيز… ولا أملك لهم إلا حفنة من الملح.”
شهداء بلا مقابر وأحياء بلا مأوى
مع مرور الطائرة فوق مخيم النصيرات، ظهرت بقع من الحياة. مجموعات صغيرة من البشر تلوّح للمظلات المتساقطة، بعضها أطفال، وبعضها نساء. ومع ذلك، فإن غالبية السكان ما زالوا يختفون تحت أنقاض منازلهم. يُقدَّر عدد الشهداء في غزة منذ اندلاع الحرب بأكثر من 60,000، فيما لا يزال المئات في عداد المفقودين تحت الأنقاض، التي لا تجرؤ فرق الإنقاذ على الاقتراب منها.
غزة الصغيرة… جغرافيا الألم اللامتناهي
من السماء، تبدو غزة صغيرة إلى حد مذهل. أصغر بأربع مرات من مساحة لندن الكبرى، لكنها تحمل على ظهرها عبء واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية دموية في العصر الحديث. في هذا الشريط الضيق من الأرض، يعيش الألم بأقصى درجاته، والدمار في أقصى صوره، والمعاناة بلا هوادة.
ذكرى ياقين… الطفلة المؤثرة
في مشهد مؤلم آخر، مرّت الطائرة فوق منطقة البراكة في دير البلح، حيث كانت تقيم الطفلة ياقين حماد – أصغر مؤثرة اجتماعية في غزة، ذات الأحد عشر عامًا، التي قُتلت في مايو بينما كانت تسقي أزهارًا في ركن صغير من مخيم النزوح. قصفٌ شديد مزّق منزلها، وحوّل لحظة براءة إلى خبر عاجل منسي.
من قلب الخراب: حياة تكافح من أجل الاستمرار
وسط هذا الكم من الحطام، تظل هناك علامات على صمود غير عادي. يروي أحد الأطباء الأجانب أن زملاءه الفلسطينيين، رغم فقدان منازلهم وأسرهم، كانوا يحضرون إلى العمل يوميًا، نظيفين ومبتسمين. قالت له طبيبة فلسطينية، وهي ترتدي حجابها كل ليلة للنوم: “أرتديه حتى إذا متّ، أكون لائقة للموت.” عبارة تكشف عن مدى ما وصل إليه الإنسان في غزة من مستوى لا يُصدّق من التكيّف مع البشاعة.
ما لا يمكن رؤيته من الأعلى
الرحلة الجوية لم تكشف فقط عن مدى الدمار، بل عن حدود الرؤية نفسها. فالمعاناة الأعمق لا تُرى من الأعلى. لا تُسمع أنين الأطفال، ولا يُشم رائحة الدم المختلط بالغبار. لا يظهر وجع الأم التي فقدت أبناءها، ولا الأب الذي يُدفن دون قبر. هذه الصور الحقيقية تحتاج إلى من يعيشها، لا من يراقبها بعدسات بعيدة.
رسالة من السماء… لا تكفي
من فوق الطائرة، كتب أحد المراسلين رسالة إلى زميلته في غزة، التي تعيش تحت الحصار، والتي لم يلتقِ بها يومًا بسبب الإغلاق التام للمعابر. كانت تلك اللحظة غريبة: أن يحلّق فوقها، دون أن يملك وسيلة لمساعدتها سوى الكلمة. هذه الفجوة بين من يملك السماء ومن يُدفن في الأرض، هي مأساة غزة باختصار.