حوادث وقضايا

ضجيج العالم الرقمي يخفي صرخه الديمقراطية: كيف تعجز السياسية عن مواكبة زلزال التكنولوجيا

صرخة الديمقراطية في زمن العاصفة الرقمية: كيف نعيد السيطرة؟

يكتب رافائيل بير أنه لم يكن في رحلة إلى مكان بعينه قدر ما كان في رحلة إلى “اللااتصال”، حين قرر أن يقضي عطلته الأخيرة بعيدًا عن الإنترنت. ورغم أنه كان في فرنسا، حيث تتوفر الشبكة في كل زاوية، اختار طوعًا أن يضع هاتفه جانبًا، ويحذف تطبيقات التواصل، ويغلق البريد الإلكتروني. هذه العزلة الرقمية لم تكن مجرد رفاهية، بل كانت ضرورة نفسية وعقلية؛ فسكون الذهن لا يُدرك إلا حين يتوقف سيل الإشعارات والتحديثات اللحظية. في هذا الفراغ المؤقت، يتضح كم أن وتيرة حياتنا اليومية أصبحت رهينة بإيقاع لا ينتج عن حاجتنا كبشر، بل عن تصميم خوارزميات تسعى لجذب انتباهنا بلا هوادة.

أزمة المعلومات: من الكتابة إلى الطباعة ثم الانفجار الرقمي

يشير بير إلى أن ما نعيشه اليوم هو ثالث أعظم “أزمة معلومات” في التاريخ، وفقًا للمؤلفة نعومي ألدرمان. الأولى كانت اختراع الكتابة، والثانية المطبعة، أما الثالثة فهي هذه الثورة الرقمية التي ما زلنا نتلمس بداياتها. الفرق الجوهري أن الثورات السابقة استغرقت قرونًا لتعيد تشكيل المجتمع، أما الثورة الرقمية فهي تفعل ذلك في عقود معدودة. إننا في عصر لا يمكن فيه فهم التأثير الكامل للتكنولوجيا، لأننا ببساطة لم نبلغ منتصف الطريق بعد، خاصة مع دخول الذكاء الاصطناعي كفاعل جديد في إعادة تشكيل الإدراك والسلوك والمجتمع.

دماغنا لا يتحمل هذا الكم: محدودية الإنسان في مواجهة تدفق البيانات

يرى الكاتب أن الدماغ البشري لم يُصمم ليواجه هذا الانفجار المستمر من المعلومات، بل تطور في بيئة تتيح التركيز على محيط محدود، حيث يمكن استشعار الخطر، واتخاذ القرارات اعتمادًا على بيانات بسيطة نسبيًا. لكن اليوم، يعيش الإنسان تحت وابل من التنبيهات والمحتوى المتضارب، ما يجعله في حالة إرهاق إدراكي دائم. هذا الضغط لا يؤدي فقط إلى التشتت، بل إلى إعادة تشكيل أسس الحكم على الأمور. الأخطر من ذلك أن هذه البيئة الرقمية تعيد صياغة رؤيتنا للواقع والهوية والمجتمع، وتفتح المجال لإعادة إنتاج الأساطير والأيديولوجيات المتطرفة، كما حدث مع كل أزمة معلومات سابقة في التاريخ.

عجز السياسة: البرلمان لا يستطيع تقنين ما يتجاوز الحدود

في ظل هذه العاصفة الرقمية، تبدو الديمقراطيات عاجزة عن إنتاج أدوات قانونية قادرة على مواكبة التغير. كيف لبرلمان محلي، في جزيرة شمال الأطلسي كالمملكة المتحدة، أن يضع قوانين تنظم عمل منصات رقمية عابرة للحدود؟ إنها معركة غير متكافئة، فالمؤسسات الديمقراطية أبطأ بكثير من وتيرة تطور التكنولوجيا. وبينما تناضل هذه المؤسسات من أجل استعادة السيطرة، تتغول شركات التكنولوجيا العملاقة على فضاء الرأي العام، وتمارس سلطات سيادية تتجاوز حتى الحكومات المنتخبة. هذا هو جوهر المأزق الديمقراطي الذي يعيشه العالم اليوم.

قانون الأمان الرقمي: بداية متواضعة لمعركة مصيرية

يشير بير إلى أن دخول قانون “السلامة الرقمية” البريطاني حيز التنفيذ يشكل خطوة صغيرة لكنها ضرورية. القانون يفرض على المنصات الرقمية مسؤوليات تتعلق بحماية القُصر من المحتوى الضار، مثل التحريض على العنف والانتحار. صحيح أن هناك عيوبًا في التطبيق، مثل حجب محتوى غير ضار عن طريق الخطأ، أو إمكانية التحايل عليه من قبل المستخدمين، إلا أن جوهر القانون يعكس محاولة لاستعادة نوع من السيادة التنظيمية في فضاء بات منفلتًا. الهجوم على القانون من قبل إدارة ترامب وبعض السياسيين مثل نايجل فاراج لا يُقرأ كدفاع عن حرية التعبير، بل كحماية لمصالح شركات تحقق أرباحًا طائلة من الفوضى المعلوماتية.

الحرية في عصر الاحتكار: من يملك صنبور الحقيقة؟

يتساءل بير عن حدود حرية التعبير حين تتحول المنصات الرقمية إلى أدوات لهيمنة الشركات لا للتحرر الفردي. هذه الشركات، مثلها مثل مصانع القرن التاسع عشر، ترفض المسؤولية عن الأضرار التي تسببها أنظمتها الخوارزمية. وتمامًا كما كان الملوّثون الصناعيون يرفضون تنظيف الأنهار بحجة التكلفة، ترفض شركات التكنولوجيا تنظيم المحتوى بحجة الدفاع عن “الحرية”. في الواقع، هي حرية الربح لا حرية الإنسان. ولذلك، فإن أي تنظيم – وإن كان قاصرًا – يجب أن يُفهم كخطوة في معركة أوسع: معركة تحديد من يملك مفاتيح تدفق المعلومات في القرن الحادي والعشرين.

صرخة في وجه العاصفة: السياسة تصارع لتسمع نفسها

في النهاية، يصف بير هذه اللحظة كصراع بين عالم قديم يحاول إعادة تنظيم ذاته، وعالم جديد يُعاد تشكيله بواسطة أدوات لا نملك بعد السيطرة عليها. قانون الأمان الرقمي ليس نهاية المطاف، بل مجرد مؤشر على بداية معركة طويلة من أجل مستقبل الديمقراطية في ظل أزمة معلومات تهدد كل الثوابت. إنها صرخة خافتة من داخل البرلمان، محاولة لتثبيت القدم وسط طوفان رقمي يصم الآذان. وربما يكون الانفصال عن الإنترنت، ولو لأيام قليلة، هو الطريقة الوحيدة اليوم لالتقاط أنفاس العقل في زمن لا يرحم بطء التفكير.

اقرا ايضا

الهند وباكستان: صراع السماء بين التفوق العددي والتكتيك السريع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى