عربي وعالمي

تقرير تحليلي: مهمة سرية فاشلة تكشف الوجه الخفي لصراع أمريكا وكوريا الشمالية

كشفت صحيفة نيويورك تايمز، استنادًا إلى مصادر عسكرية واستخباراتية، تفاصيل صادمة عن عملية سرية نفذتها قوات النخبة الأمريكية Navy Seals عام 2019 داخل المياه الكورية الشمالية، بأمر مباشر من الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب. الهدف المعلن كان زرع جهاز تنصت متطور لتجاوز “ثغرة استخباراتية” في قدرة واشنطن على مراقبة اتصالات الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، في وقت كانت فيه القمم التاريخية بين الرجلين تشغل العالم. لكن العملية تحولت إلى مأساة عندما صادف عناصر القوات الخاصة صيادين كوريين شماليين على متن قارب صغير، فأطلقوا النار عليهم وأردوهم قتلى. لم يتم الكشف عن الحادث للرأي العام، وبقي ضمن ملفات سرية للغاية، بينما خلصت مراجعة للبنتاغون إلى أن إطلاق النار “مبرر ضمن قواعد الاشتباك”. هذه التسريبات تفتح بابًا واسعًا للأسئلة: إلى أي مدى يمكن أن تذهب الولايات المتحدة في تنفيذ عمليات سرية داخل دولة نووية معادية؟ وما التداعيات الأخلاقية والسياسية لهذه الحوادث على صورة واشنطن ودبلوماسيتها في العالم؟

خلفية العملية وأهدافها

جاءت العملية في سياق سعي إدارة ترامب إلى تعزيز موقفها التفاوضي قبيل قمة 2019 مع كيم جونغ أون. كان الهدف زرع جهاز تنصت متطور يتيح للولايات المتحدة اعتراض اتصالات مباشرة للزعيم الكوري الشمالي، ما كان سيمنح ترامب ورقة ضغط إضافية على طاولة المفاوضات. هذه الخطوة، وفق المصادر، عكست شعور البيت الأبيض بوجود “ثغرة خطيرة” في قدرات المخابرات الأمريكية على فهم نوايا بيونغ يانغ، رغم استثمار عقود من الزمن في مراقبة النظام الكوري الشمالي. العملية استندت إلى خطة مشابهة أُقرت عام 2005 في عهد جورج بوش الابن، لكنها حملت مخاطرة مضاعفة في ظل حساسية الظرف السياسي والدبلوماسي حينها.

مسار المهمة العسكرية

انطلقت العملية من غواصة أمريكية تعمل بالطاقة النووية، اقتربت سرًا من السواحل الكورية الشمالية. من هناك، استخدم فريق مكون من ثمانية عناصر من الـNavy Seals غواصات صغيرة لعبور المياه الباردة والوصول إلى الشاطئ. كان من المفترض أن يتسلل الفريق عبر نقاط حدودية محروسة بإحكام، ويزرع جهاز التنصت دون أن يُكشف أمره، ثم ينسحب بسرعة. لكن الصدفة قادتهم لمواجهة صيادين محليين كانوا يغوصون بحثًا عن المحار، وهو ما أدى إلى إطلاق النار عليهم وقتلهم جميعًا، قبل أن يتراجع الفريق دون تنفيذ الهدف الأساسي للمهمة.

الخسائر البشرية وردود الفعل

بحسب التسريبات، قُتل جميع الصيادين الذين كانوا على متن القارب الصغير، لكن لم تُحدد المصادر عدد الضحايا بدقة. لم يُعلن عن الحادث رسميًا من قبل أي طرف، لا في واشنطن ولا في بيونغ يانغ. المراجعة الداخلية للبنتاغون خلصت إلى أن القتل “مبرر”، باعتبار أن القوات الخاصة تصرفت وفق قواعد الاشتباك المقررة في حال مواجهة تهديد محتمل. لكن تسريب هذه المعلومات الآن يثير جدلاً أخلاقيًا واسعًا، إذ يُطرح سؤال حول ما إذا كان مجرد وجود مدنيين في منطقة حساسة يكفي لاعتبارهم تهديدًا يستوجب التصفية.

البعد السياسي والدبلوماسي

تكشف هذه الواقعة جانبًا مظلمًا من التناقض في دبلوماسية ترامب تجاه كوريا الشمالية: ففي الوقت الذي كان يلتقط الصور التاريخية مع كيم جونغ أون، كانت قواته الخاصة تنفذ عمليات سرية داخل الأراضي الكورية الشمالية. هذا التناقض يعكس طبيعة إدارة ترامب التي كانت تمزج بين خطاب التقارب العلني وممارسة الضغط الخفي عبر الأدوات العسكرية والاستخباراتية. على المدى الطويل، قد تسهم هذه التسريبات في تقويض أي فرصة لإحياء المفاوضات مع بيونغ يانغ، إذ ستُنظر إلى واشنطن على أنها طرف لا يحترم قواعد اللعبة الدبلوماسية.

الأبعاد الأخلاقية والإنسانية

إطلاق النار على مدنيين عُزّل يثير إشكاليات أخلاقية عميقة. فحتى لو اعتُبر الحادث “مبررًا عسكريًا”، فإن قتل صيادين يمارسون نشاطًا تقليديًا في مياههم الإقليمية يضع الولايات المتحدة في موضع الاتهام بارتكاب انتهاك للقانون الدولي الإنساني. مثل هذه الوقائع تُضعف ادعاءات واشنطن المتكررة بالدفاع عن “حقوق الإنسان”، وتمنح خصومها، كالصين وروسيا، مادة دعائية قوية ضدها في المحافل الدولية.

سرية العملية وتداعيات الكشف عنها

العملية بقيت طي الكتمان لسنوات، وهو ما يعكس رغبة الإدارات الأمريكية المتعاقبة في إخفاء أي تحركات عسكرية مباشرة ضد كوريا الشمالية خشية التصعيد. لكن كشف هذه المعلومات الآن يثير أسئلة حول تسريبها: هل الهدف هو الإضرار بترامب في حملته الانتخابية الجديدة؟ أم أنها محاولة لإظهار هشاشة سياسات الردع الأمريكية تجاه خصومها النوويين؟ في كلا الحالتين، فإن مجرد تسريب هذه العملية يكفي لإعادة خلط الأوراق في ملف العلاقات الأمريكية – الكورية الشمالية.

مستقبل العلاقات الأمريكية – الكورية الشمالية

منذ انهيار قمة 2019، لم تُستأنف المفاوضات بين واشنطن وبيونغ يانغ، فيما واصل نظام كيم تطوير برنامجه النووي والصاروخي بوتيرة متسارعة. الكشف عن هذه العملية سيزيد من تصلب موقف كوريا الشمالية، التي ستعتبرها دليلاً إضافيًا على أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى تفاوض نزيه، بل إلى تقويض النظام من الداخل. هذا التطور قد يدفع بيونغ يانغ إلى تصعيد تجاربها العسكرية كرسالة ردع، ما يزيد من توتر شبه الجزيرة الكورية.

انعكاسات داخلية في واشنطن

داخليًا، قد تفتح هذه التسريبات بابًا لمساءلة سياسية حول طبيعة قرارات ترامب خلال ولايته الأولى، خصوصًا فيما يتعلق باستخدام القوة العسكرية في مناطق حساسة دون موافقة الكونغرس. كما قد تُستخدم كورقة ضغط من خصومه الديمقراطيين للتشكيك في أهليته لقيادة المرحلة المقبلة. على الجانب الآخر، قد يراها أنصاره دليلاً على “جرأته” واستعداده لاتخاذ قرارات صعبة لحماية الأمن القومي الأمريكي.

الخلاصة: مأساة تكشف تناقض القوة والضعف

تُظهر هذه العملية الفاشلة التناقضات العميقة في الاستراتيجية الأمريكية تجاه كوريا الشمالية: القوة المفرطة في الميدان، والضعف في المفاوضات. كما تكشف أن الرهان على العمليات السرية لا يخلو من مخاطر إنسانية وأخلاقية قد ترتد سلبًا على صورة الولايات المتحدة عالميًا. وبينما يستمر الجمود في شبه الجزيرة الكورية، يبدو أن هذه التسريبات ستظل شاهدًا على أن إدارة الصراعات النووية لا تُدار فقط خلف أبواب القمم الدبلوماسية، بل أيضًا في أعماق البحار وظلال العمليات السرية.

اقرا ايضا

ترامب يغير اسم البنتاجون إلى وزارة الحرب.. «الهجوم قبل الدفاع» 

نيرة احمد

نيرة أحمد صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى