هرتسي هليفي يكشف: أكثر من 200 ألف ضحية في غزة وتأكيد على تغييب الدور القانوني في قرارات الجيش

أثار تصريح غير مسبوق أدلى به رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، هرتسي هليفي، جدلًا واسعًا بعدما أكد أن عدد القتلى والمصابين الفلسطينيين في قطاع غزة تجاوز 200 ألف منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023. هذه الحصيلة، التي تمثل أكثر من 10% من سكان القطاع المحاصر، تتوافق بدرجة كبيرة مع الأرقام التي تصدرها وزارة الصحة في غزة، رغم أن السلطات الإسرائيلية كانت دومًا تقلل من مصداقيتها وتصفها بالدعاية التابعة لحركة حماس. أهمية هذا الاعتراف لا تكمن فقط في حجم الكارثة الإنسانية، وإنما أيضًا في تأكيد هليفي أن العمليات العسكرية لم تُقيّد بأي شكل من الأشكال باعتبارات قانونية، في تلميح صريح إلى أن المستشارين القانونيين في الجيش لم يكن لهم أي سلطة حقيقية على مسار القرارات الميدانية.
هذا التصريح يعكس تحولات خطيرة في نهج الجيش الإسرائيلي الذي تبنى، وفق تعبير هليفي، استراتيجية “نزع القفازات” منذ اللحظة الأولى للحرب، في إشارة إلى التخلي عن القيود التقليدية التي يُفترض أن تفرضها قوانين الحرب والمعايير الإنسانية الدولية. وبينما تستمر إسرائيل في الترويج لخطاب أنها “تعمل ضمن القانون الدولي”، تبرز تصريحات هليفي كدليل على أن المستشارين القانونيين كانوا مجرد أداة لتوفير غطاء خارجي، وليس لتحديد حدود المسموح والممنوع عسكريًا. وفي ظل اقتراب الحرب من عامها الثاني، تبدو تداعيات هذه التصريحات أوسع من كونها مجرد اعتراف داخلي، بل قد تُشكل مادة دسمة للمحاكم الدولية وجهود توثيق الانتهاكات.
اعتراف بالأرقام بعد سنوات من الإنكار
ما ميّز تصريحات هرتسي هليفي أنها جاءت متطابقة تقريبًا مع إحصاءات وزارة الصحة في غزة، والتي سبق أن شككت فيها إسرائيل مرارًا. الإقرار بسقوط أكثر من 200 ألف بين قتيل وجريح يضع الجيش الإسرائيلي أمام مسؤولية مباشرة عن كارثة إنسانية غير مسبوقة في تاريخ الصراع. كما يعكس حجم الدمار الذي طال المدنيين، حيث تشير تقارير استخباراتية إسرائيلية مسربة إلى أن 80% من الضحايا حتى مايو الماضي كانوا من المدنيين غير المشاركين في القتال. هذا التطابق بين المصادر الرسمية الفلسطينية والإسرائيلية، ولو بشكل غير مباشر، يكشف هشاشة الرواية التي حاولت تل أبيب تسويقها عالميًا لتبرير حجم الضربات على غزة.
“نزع القفازات”: سياسة حرب بلا قيود
استخدام هليفي لتعبير “نزع القفازات” منذ الدقيقة الأولى للحرب، يختصر طبيعة النهج الذي اتبعه الجيش الإسرائيلي في غزة. فالحملة العسكرية لم تميز بين أهداف عسكرية ومدنية، بل اعتمدت على الضربات الكثيفة التي تسببت في انهيار البنية التحتية بأكملها، من مستشفيات ومدارس ومخيمات لجوء. هذه الاستراتيجية، التي يصفها بعض المراقبين بسياسة “الأرض المحروقة”، تهدف إلى فرض واقع جديد بالقوة بغض النظر عن الكلفة البشرية. اعتراف القائد العسكري السابق بأن “الحرب لم تكن لطيفة” يحمل بُعدًا إضافيًا، إذ يعترف ضمنيًا بأن قتل المدنيين كان جزءًا متوقعًا، إن لم يكن متعمدًا، من خطة الحرب.
تغييب المستشارين القانونيين: شهادة من الداخل
أكثر ما أثار الانتباه في حديث هليفي هو تأكيده أن المستشارين القانونيين في الجيش لم يفرضوا أي قيود فعلية على قراراته. بل ذهب أبعد من ذلك عندما قال: “لم يقيّدني أحد ولا مرة واحدة”. هذا التصريح يعكس حقيقة أن دور القانونيين كان أقرب إلى “ورقة تبرير” للاستهلاك الخارجي، لا إلى جهة رقابية داخلية. تصريحات هليفي تعزز رواية منظمات حقوقية إسرائيلية ودولية لطالما أكدت أن القانون في الجيش يُستخدم كأداة لتجميل الانتهاكات وليس لمنعها.
الأهمية الدولية للاعتراف
في ظل النقاشات المتصاعدة حول إمكانية إحالة جرائم الحرب في غزة إلى المحكمة الجنائية الدولية، يشكل تصريح هليفي مادة بالغة الأهمية. فهو اعتراف من مسؤول عسكري رفيع بأن الجيش لم يلتزم عمليًا بقيود القانون الدولي، وأن الأضرار التي لحقت بالمدنيين كانت متعمدة أو على الأقل متوقعة. مثل هذه الشهادة قد تُستخدم كدليل مباشر أمام المحاكم الدولية أو لجان التحقيق الأممية التي تسعى إلى إثبات النمط المنهجي في استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية.
استمرار الكارثة الإنسانية على الأرض
رغم مرور ما يقارب العامين على بداية الحرب، لا تزال المعاناة الإنسانية في غزة تتفاقم يومًا بعد يوم. ففي الوقت الذي أدلى فيه هليفي بتصريحاته، كان 40 فلسطينيًا آخرون يُقتلون في ضربات جوية إسرائيلية معظمها في مدينة غزة. آلاف آخرون لا يزالون تحت الركام بلا دفن أو توثيق رسمي. هذه الأرقام المتزايدة تضع المجتمع الدولي أمام مشهد من الانهيار الكامل، حيث أصبح الحديث عن “أكبر كارثة إنسانية في القرن الحالي” وصفًا لا يبالغ في توصيف الواقع.
تجاهل التحذيرات القانونية داخل المؤسسة العسكرية
تقرير صحيفة “هآرتس” الأخير أشار إلى أن خليفة هليفي في رئاسة الأركان، إيال زمير، تجاهل هو الآخر نصائح المستشارة القانونية العسكرية ييفات تومر-يروشالمي، التي طالبت بتأجيل أوامر تهجير مليون فلسطيني من مدينة غزة حتى يتم توفير مأوى بديل في الجنوب. هذا التجاهل يؤكد أن المشكلة ليست فردية بل مؤسساتية، وأن المستويات العليا في الجيش اعتبرت النصائح القانونية مجرد اقتراحات قابلة للإهمال لا أكثر.
دور المستشارين كـ”أداة تبرير” أمام الخ دور ارج
المفارقة التي كشفها هليفي تتجلى في تأكيده أن قيمة المستشارين القانونيين تكمن في قدرتهم على “الدفاع عن إسرائيل أمام العالم”. هذا الدور يختزل وظيفة القانون من كونه معيارًا مُلزمًا إلى مجرد خطاب دعائي يهدف إلى تحسين صورة الجيش دوليًا. بالنسبة للقيادة العسكرية، يبدو أن الهدف لم يكن احترام القانون، بل كيفية الالتفاف عليه وصياغة مبررات يمكن تسويقها أمام الرأي العام الغربي والحكومات الداعمة لإسرائيل.
انعكاسات الاعتراف على صورة الجيش الإسرائيلي
تصريحات هليفي، وإن بدت موجهة لجمهور داخلي في مستوطنة إسرائيلية، إلا أنها تجاوزت حدود النقاش المحلي لتتحول إلى قضية رأي عام دولي. فهي لا تفضح فقط حجم الضحايا في غزة، بل تكشف أيضًا عن آلية اتخاذ القرار داخل الجيش الإسرائيلي، حيث يغيب القانون وتحضر القوة العارية كمرجعية وحيدة. مثل هذه الاعترافات ستلقي بظلال ثقيلة على صورة إسرائيل التي تحاول منذ سنوات تسويق نفسها كـ”ديمقراطية تحارب الإرهاب”، لكنها تبدو الآن أمام العالم كدولة تستخدم القانون كغطاء وهمي لحرب بلا ضوابط.
اقراء أيضاً:
لا أمل فى إقناع المصريين.. نتنياهو يرد على طلب وزيرة إسرائيلية حول التهجير