مقالات وآراء

محمود فرحان يكتب: حرب أكتوبر 1973.. المسرح الخفي بين السادات والاتحاد السوفيتي والتحول نحو الغرب

محاولة السوفيت صياغة سياسات واقعية للتعامل مع تداعيات حرب أكتوبر وتحول مصر نحو الغرب

لم تكن حرب أكتوبر 1973 مجرد مواجهة عسكرية بين العرب وإسرائيل، بل كانت زلزالًا سياسيًا واستراتيجيًا غيّر موازين القوى في الشرق الأوسط وفتح الباب لتحولات غير مسبوقة في علاقات مصر مع كلٍّ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

بين “المسرحية” التي تحدّث عنها بعض الدبلوماسيين السوفيت، وطموح السادات في استعادة سيناء بأي ثمن، وبين الحذر المبالغ فيه في الكرملين والدور الخفي للرياض وواشنطن، تشكّلت واحدة من أعقد اللوحات في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي.

هذا التقرير يستعرض، من خلال شهادات ومذكرات دبلوماسيين سوفيت ومسؤولين مصريين، الأسرار الخفية والقرارات المصيرية التي جعلت حرب أكتوبر نقطة فاصلة، لم تغيّر فقط خريطة الحرب والسلام، بل أعادت صياغة علاقة القاهرة بموسكو وواشنطن، ورسمت مستقبل المنطقة لعقود تالية.

كانت حربًا استثنائية من جوانب عدّة:

لأول مرة قادت مصر التحالف العربي وكانت القوة المحركة فيه.

حقق العرب نجاحات عسكرية غير مسبوقة – ولو كانت محدودة ومؤقتة – تركت أثرًا عميقًا في ميزان الصراع.

شُنّت الهجمات العربية ضد القوات الإسرائيلية دون مشاركة مباشرة من قوى خارجية.

توقفت الحرب بشكل مفاجئ، مما أعطى المراقبين انطباعًا بأنها كانت أقرب إلى “عرض مُحكم التنظيم”.

ومع أن الحروب السابقة بين العرب وإسرائيل كانت تُدار وفق منطق اللعبة الصفرية، فإن هذه الحرب جاءت في سياق مختلف تمامًا. فقد سبقتها خطوة غير مسبوقة من الرئيس المصري أنور السادات بالانفتاح على الولايات المتحدة، في وقت كان الاتحاد السوفيتي قد سحب خبراءه العسكريين من مصر. الأكثر غرابة أن موسكو لم تُبلغ بالحرب إلا بعد اندلاعها، لكنها واصلت تقديم الدعم العسكري للقاهرة.

بعد مرور خمسين عامًا، لا تزال هناك تساؤلات لم تُحسم بعد، ولا تزال قراءات تلك المرحلة تحمل الكثير من الغموض. في هذا التقرير، يعتمد الكاتبان على شهادات ومذكرات دبلوماسيين وصحفيين وسياسيين سوفيت شاركوا في الأحداث بشكل مباشر، مع التركيز على مقابلة أجراها فيتالي ناومكين مع السفير السوفيتي المخضرم أندريه باكلانوف.

خلفيات شخصية للمصادر

كان فيتالي ناومكين طالبًا بجامعة القاهرة خلال حرب 1967، ثم عمل مترجمًا مع الوفود السوفيتية الرسمية التي زارت مصر والدول العربية. خدم لاحقًا في الجيش السوفيتي كمترجم عسكري وأستاذ في معهد اللغات الأجنبية العسكري بموسكو. أما أندريه باكلانوف، فهو سفير فوق العادة وذو خبرة طويلة في المنطقة العربية، رأس البعثة الدبلوماسية الروسية في السعودية، وشغل مناصب استشارية عليا في مجلس الاتحاد الروسي، كما عمل أستاذًا بجامعة الاقتصاد والسياسة العالمية. قضى سنوات في مصر ما بين 1969 و1972 كملحق ثم كمترجم بالسفارة السوفيتية.

محمود فرحان يكتب: حرب أكتوبر 1973.. المسرح الخفي بين السادات والاتحاد السوفيتي والتحول نحو الغرب

هل توقع السوفيت اندلاع الحرب؟

عندما سُئل باكلانوف عما إذا كانت موسكو تتوقع نشوب حرب جديدة، أكد أن الاتحاد السوفيتي توقّع بدقة الإطار الزمني المحتمل للحرب. ففي أعوام 1971 و1972 و”العام الحاسم” 1973، كان السادات يكرر حتمية المواجهة مع إسرائيل إذا فشلت المفاوضات. هذه الرؤية بدت استمرارًا لخطاب جمال عبد الناصر، الذي كان يؤكد أن الأراضي المحتلة لا تُسترد إلا بالقوة إذا انسدت سبل التفاوض.

أراد السادات أن يُخلّد اسمه كقائد أعاد سيناء لمصر بعد أن خسرها عبد الناصر عام 1967. وبذلك ظهر تنافس ضمني بين إرث ناصر وطموح خليفته. في الوقت نفسه، كان لدى موسكو شبكة معلومات واسعة، وظلت تتلقى تقارير استخباراتية حتى بعد انسحاب الخبراء العسكريين في صيف 1972.

ورغم عنصر المفاجأة الظاهري، فإن باكلانوف مقتنع بأن موسكو وواشنطن وبعض العواصم الأخرى كانوا على دراية بالموعد. بل وذهب إلى حد وصف الحرب بأنها “مسرحية” شاركت في إعدادها دوائر ضيقة في مصر والولايات المتحدة وإسرائيل.

لماذا احتاج السادات إلى الحرب؟

يرى باكلانوف أن السادات كان مضطرًا إلى دخول الحرب لبدء مفاوضات السلام من موقع أقوى. فقد كان بحاجة ماسة إلى نصر – ولو محدود – ليظهر أمام شعبه والعالم العربي بصورة البطل.

لكن السوفيت كانوا يخسرون نفوذهم تدريجيًا. فخروج الخبراء العسكريين لم يكن قرارًا مثاليًا، بل نتيجة ضغوط متصاعدة، ورغم أن هيئة الأركان السوفيتية أوصت بتقليص الوجود قبل 1972، فإن المكتب السياسي للحزب الشيوعي رفض ذلك في البداية.

أوضح باكلانوف أن موسكو ظلت في موقف غامض: من ناحية تتمسك رسميًا بدعم مصر، ومن ناحية أخرى تتصاعد التوترات مع السادات الذي طرد الخبراء. وفي الوقت ذاته كان السادات يجهّز وثيقة “ورقة أكتوبر” التي جسدت تحوّل مصر نحو الغرب.

العلاقات مع النخبة الاقتصادية

تحدّث باكلانوف عن علاقته الوثيقة بوزير التخطيط المصري إسماعيل صبري عبد الله، والذي أطلعه مبكرًا على رؤية السادات لإعادة هيكلة الاقتصاد. فقد طلب السادات من وزرائه وضع تصور يقوم على جذب الاستثمارات من الدول النفطية العربية والدول الغربية معًا.

قال عبد الله صراحة: “نعم سنقول علنًا إن التمويل سيأتي من العرب أولًا، لكن الهدف الحقيقي هو دمج الأموال الخليجية بالاستثمارات الغربية”. أي أن التوجّه كان عمليًا لإعادة توجيه الاقتصاد المصري نحو الغرب.

باكلانوف نقل هذه المعلومات إلى موسكو مؤكدًا أن مصر بصدد تغيير جذري في مسارها الاقتصادي والسياسي. ورغم أن مثل هذه التقارير كانت محرجة للدبلوماسيين – لأنها تحمل نبرة سلبية عن حليفهم – إلا أنه تمسّك برأيه.

الجدل داخل السفارة

في اجتماع بالسفارة السوفيتية بالقاهرة عام 1971، عرض المستشار السياسي فاليري سوخين تقريرًا متفائلًا يتوقع استمرار التحالف مع موسكو. لكن ثلاثة دبلوماسيين صغار – بينهم باكلانوف – خالفوه علنًا. استند باكلانوف إلى دلائل اقتصادية تؤكد أن مصر تسير نحو الليبرالية والديمقراطية، وأن السادات نفسه هو صاحب قرار التحول وليس مجرد خاضع لضغوط معادية للاتحاد السوفيتي.

وبالفعل، تحققت تنبؤات هؤلاء الدبلوماسيين: ففي 1972، طرد السادات الخبراء العسكريين السوفيت بالكامل. وهو ما كان قد توقعه زميل آخر يُدعى توردييف نقلاً عن مجلة لبنانية كتبت مبكرًا عن ذلك.

أجواء داخلية

أقرّ السفير السوفيتي آنذاك فلاديمير فينوغرادوف لاحقًا أن رؤية باكلانوف وزملائه كانت صائبة، لكنه حاول التخفيف من وقعها بالقول إن دورهم يقتصر على التنبيه بينما مهمته هي منع تحقق السيناريو الأسوأ.

هكذا انقسمت الرؤية داخل البعثة السوفيتية: فريق متفائل يرى أن الأمور ستعود لمسارها الطبيعي، وفريق آخر (الأصغر عددًا) يؤكد أن مصر تحوّلت استراتيجيًا نحو الولايات المتحدة.

البعد السعودي

دور الرياض في الوساطة

لم يكن لدى السوفيت أي قنوات جدية مع السعودية في تلك الفترة. لكن باكلانوف بعد سنوات طويلة علم من وزير الدفاع السعودي آنذاك الأمير سلطان بن عبد العزيز أن المملكة لعبت دورًا أساسيًا في تقريب وجهات النظر بين القاهرة وواشنطن.

حين سأله باكلانوف بشكل مباشر عن دور الاستخبارات السعودية في توجيه مصر نحو الولايات المتحدة، أجاب الأمير:
“نعم، ساعدنا في هذا التحول. كانت ظروف تلك الحقبة تتطلب ذلك، وكنا على علاقة طيبة مع الأمريكيين.”

التمويل السعودي لمصر

أكّد باكلانوف أن وعود الدعم المالي بدأت بالفعل قبل الحرب. ففي 1971 أُنشئ بنك النصر الاجتماعي برأسمال سعودي تقريبًا، تمهيدًا لمرحلة جديدة من الاستثمارات الخليجية في مصر بشرط التخلي عن السياسات الاشتراكية.

التقييم السوفيتي للمشهد الإقليمي

مصر وسوريا وإسرائيل

مصر: الملف الأهم لدى الدبلوماسية السوفيتية. ومع ذلك لم تدرك موسكو تمامًا حجم التحول الاستراتيجي نحو واشنطن.

سوريا: اعتُبرت قائدة ما يسمى بـ “جبهة الرفض” في مواجهة أي تسويات منفردة. وكان متوقعًا أن تتحول إلى مركز قوة عربي بديل في حال ابتعدت مصر.

الأردن: العلاقات محدودة، خصوصًا بعد أحداث أيلول الأسود 1970.

إسرائيل: رأى بعض الدبلوماسيين الشبان أنه من الضروري استئناف العلاقات معها بعدما قطعها السوفيت إرضاءً للعرب، لكن موسكو الرسمية رفضت الفكرة.

محمود فرحان يكتب: حرب أكتوبر 1973.. المسرح الخفي بين السادات والاتحاد السوفيتي والتحول نحو الغرب

التخبط في السياسة

ظلّت موسكو متمسكة بأهدافها القديمة (العودة لحدود 1967 عبر القرار 242)، لكنها فشلت في تطوير مقاربة جديدة تناسب الواقع بعد حرب 1973. ومن ثم بقيت رؤيتها جامدة، بينما كان السادات يتجه بسرعة نحو تفاهمات ترعاها واشنطن.

العلاقات العسكرية أثناء الحرب

رغم أن السادات فاجأ موسكو بقرار الحرب، إذ لم يُبلغها رسميًا إلا بعد عبور الجيش المصري قناة السويس، إلا أن الاتحاد السوفيتي أعاد فتح جسر جوي وبحري هائل لنقل السلاح إلى مصر.

حصل السوفيت في المقابل على فرصة نادرة لدراسة أسلحة غربية استولى عليها المصريون، مثل الدبابة البريطانية “سنتوريون” ثم الدبابة الأميركية M48، وأجهزة إلكترونية متطورة وحتى أولى الطائرات المسيّرة للاستطلاع.

وصف باكلانوف الموقف الروسي بأنه يعكس “الطبيعة الروسية”: نستطيع أن ننسى الخلافات فجأة ونهرع لدعم الحليف السابق.

قال الملحق العسكري بالسفارة السوفيتية حينها: “نصف رغيف خير من لا شيء. فقد ابتعدوا عنا، لكن كان لزامًا علي أن أُمسك بشيء ملموس، وقد أرسلت إلى موسكو مجموعة أسلحة غربية قيّمة، ولهذا أشعر بالرضا عن نتيجة حرب 1973.”

المؤامرات حول السادات

ظهرت منذ انتهاء الحرب روايات عديدة تقول إن السادات كان على اتفاق مسبق مع واشنطن يوقف بموجبه القتال عند حدود معينة في سيناء، بينما كانت سوريا راغبة في الاستمرار.

عندما سُئل السادات مباشرة من السفير فينوغرادوف: “لماذا توقفت؟” أجاب إجابة غامضة: “هل يُعقل أن أجري مع جنودي؟”

رأى باكلانوف أن التوقف المفاجئ عزز فكرة أن الحرب كانت وسيلة لخلق تأثير نفسي محدود يمهّد لمسار سياسي، أكثر منها حرب تحرير كاملة.

السوريون شعروا بخيبة أمل، لكنهم التزموا بخططهم التي وضعها حافظ الأسد. ومع ذلك ظلّت الاستخبارات السورية على علم بتفاصيل ما يجري في القاهرة وتل أبيب.

مراجعات سوفيتية بعد كامب ديفيد

ما بعد الحرب

بعد 1973 حاولت موسكو إطلاق مسار جنيف للسلام، لكنها وجدت نفسها مُستبعدة تدريجيًا من التفاهمات الحقيقية التي جرت بين مصر وأميركا.

في البداية لم تغيّر موسكو موقفها تجاه السادات جذريًا.

لكن بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد (1978)، أصبح الخطاب السوفيتي أكثر عدائية واتهامًا للسادات بالخيانة.

التناقض في الرؤية

أقرّ باكلانوف أن التقييمات الرسمية السوفيتية كانت مليئة بالتناقض:

كانوا يدينون كامب ديفيد باعتبارها “مؤامرة ضد السوفيت”،

لكن الواقع أثبت أنها مهّدت لأول عملية سلام حقيقية بين العرب وإسرائيل.

ومع مؤتمر مدريد 1991 بدأت موسكو تُراجع مواقفها السابقة وتعتبر أن بعض ما رفضته في السبعينيات كان أكثر واقعية من خطط لاحقة.

الدروس والعِبر الإستراتيجية

خلص باكلانوف إلى أن حرب أكتوبر 1973 كانت منعطفًا تاريخيًا في الشرق الأوسط:

منحت السادات ما يكفي من شرعية للدخول في مفاوضات سلام برعاية أميركية.

كشفت عن ارتباك السياسة السوفيتية، التي لم تستطع التكيّف مع تحولات حليفها الأكبر في المنطقة.

أبرزت دور السعودية كوسيط مالي وسياسي في إعادة تموضع مصر.

ومهّدت في النهاية لاتفاقيات كامب ديفيد التي غيّرت خريطة المنطقة.

يقول باكلانوف: “ستبقى حرب 1973 حدثًا محوريًا يحتاج المزيد من الدراسة. فكلما توفرت معلومات إضافية، اقتربنا أكثر من فهم جوهر تلك المرحلة.”

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. عمل في مؤسسات إعلامية محلية ودولية، وتولى إدارة محتوى في مواقع إخبارية مثل "أخباري24" والموقع الألماني "News Online"، وغيرهم, حيث قاد فرق التحرير وواكب التغيرات المتسارعة في المشهد الإعلامي العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى