رسوم ترامب الجمركية تهدد التجارة الحرة.. لكن العالم قد يتأقلم
رسوم ترامب الجمركية تهز التجارة العالمية، لكن الأسواق الحرة قد تنجو من العاصفة

في مشهد رمزي، وقف الرئيس دونالد ترامب في حديقة الورود بالبيت الأبيض يوم الأربعاء، رافعًا قبضته أمام مجموعة من الأعلام الأمريكية، معلنًا قائمة واسعة من الرسوم الجمركية التي تستهدف أكثر من 100 دولة. أطلق على هذا اليوم اسم “يوم التحرير”، معتبرًا إياه لحظة تاريخية في مسار الاقتصاد الأمريكي. وفقًا لما ورد فى صحيفة نيويورك تايمز
خطوة ترامب تحمل صدى لحدث سابق: الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي قبل نحو تسع سنوات. كلا الحدثين يمثلان انسحابًا من نظام اقتصادي عالمي قائم، أقدمت فيه قوة اقتصادية كبرى على بناء جدران جديدة حول نفسها، بحجة استعادة السيادة. كما انسحبت بريطانيا من تكتل أوروبي واسع، يبدو أن ترامب يسحب الولايات المتحدة من الاقتصاد العالمي، تحت شعار مشابه.
لكن وقع الصدمة هذه المرة أعنف، نظرًا لحجم الاقتصاد الأمريكي ودوره المحوري في التجارة العالمية. ومع ذلك، فإن التأثير النهائي لما أعلنه ترامب لا يزال غير محسوم؛ فقد يتراجع عن قراراته إذا واجهت الأسواق اضطرابات كبيرة، أو إذا توصل إلى صفقات فردية تهدئ الموقف.

الأهم من ذلك، يقول اقتصاديون إن فكرة التجارة الحرة باتت مترسخة بدرجة يصعب معها التراجع الكامل. فعلى الرغم من العراقيل المتكررة، والمظالم التي يستند إليها ترامب في تبرير إجراءاته، فإن العالم استمر في إزالة الحواجز التجارية في السنوات الماضية.
الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، لم ينهَر بعد خروج بريطانيا. بل إن النقاشات السياسية في لندن حاليًا تدور حول سبل تقارب جديد مع أوروبا. ومع ذلك، لم يتحقق هذا الاستقرار إلا بعد سنوات من الاضطراب، ويتوقع الاقتصاديون أن يواجه النظام التجاري العالمي اضطرابات مشابهة بعد إعلان ترامب.

“لن تكون نهاية التجارة الحرة، لكنها بالتأكيد تراجع عن التجارة الحرة غير المقيدة، وهو المسار الذي بدا أن العالم يسلكه”، هكذا قال إسوار براساد، أستاذ سياسات التجارة في جامعة كورنيل. وأضاف: “منطقيًا، ينبغي أن تتوحد بقية دول العالم الآن لتعزيز التجارة الحرة فيما بينها، لكن الواقع هو أن كل دولة ستحاول التصرف بشكل منفرد”.
مستقبل مشحون بالتحديات
في عالم تتصاعد فيه النزاعات التجارية، يزيد احتمال أن يصبح النظام أكثر فوضوية، وربما أكثر خطورة. فمع أن الحروب التجارية لا تؤدي بالضرورة إلى حروب مسلحة، إلا أن بعض الصراعات التاريخية، كحرب 1812 وحروب الأفيون في القرن التاسع عشر، كانت جذورها تجارية.
الصراع التجاري الكامل بين الولايات المتحدة والصين قد يشعل التوتر في علاقة مشحونة أصلاً. فبحسب براساد، كانت العلاقات الاقتصادية والمالية بين البلدين بمثابة عنصر توازن، والآن هذا التوازن يتآكل.
وبينما لم يصل ترامب إلى درجة “دبلوماسية السفن الحربية” كما فعلت بريطانيا في حروب الأفيون، إلا أن موقفه العدائي تجاه شركاء تجاريين مقربين مثل كندا والمكسيك يعمق الشعور بالانقسام ويزيد من صعوبة تنسيق رد فعل عالمي مشترك.
ارتباك عالمي واستجابات متباينة
سيحاول العديد من الدول التوصل إلى صفقات مباشرة مع ترامب، كما فعل رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر مؤخرًا بعد فرض الولايات المتحدة رسومًا بنسبة 10% على الواردات البريطانية. في المقابل، قد تختار بعض الدول فرض رسوم انتقامية لتقوية موقفها التفاوضي.
الصين سارعت يوم الجمعة للرد برسوم جمركية بلغت 34%، وسط توقعات بتنسيق رد مشترك مع اليابان وكوريا الجنوبية. وفي الوقت نفسه، حذّر الاتحاد الأوروبي من إغراق سوقه بالبضائع الرخيصة التي لم تعد تجد مكانًا في السوق الأمريكية.
“الكثير سيعتمد على الطريقة التي ستتصرف بها أوروبا”، يقول سيمون جونسون، أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. “قد يقترب الأوروبيون من الصين لسد الفجوة الناتجة عن انسحاب الولايات المتحدة. لكن هل ستكون أوروبا مرتاحة لقبول هذا الكم الهائل من الصادرات الصينية؟”
خيارات محدودة أمام الصين والعالم النامي
أمام بكين خياران: إما تحفيز الطلب الداخلي لتقليل الاعتماد على التصدير، وهو أمر لم يحقق نتائج دائمة في الماضي، أو محاولة التوصل إلى صفقة جديدة مع ترامب، وهو ما فشلوا فيه خلال فترته الرئاسية الأولى.
ورغم انتقادات كثيرة لطريقة ترامب الهجومية، فإن اقتصاديين يرون أن المشكلة التي يحاول معالجتها حقيقية: الصعود الصيني كقوة تجارية مدعومة من الدولة أضر بالتصنيع الأمريكي، بحسب ترامب، والرسوم الجمركية ستعيده.
سابقًا، اتخذ الرئيس باراك أوباما إجراءات مماثلة ضد الصين، وفرض رسومًا بنسبة 35% على إطارات السيارات بين 2009 و2012. وحتى بعد توليه الرئاسة، أبقى جو بايدن على رسوم ترامب تجاه الصين.

“النظام التجاري العالمي يعاني من ضغوط منذ فترة، والسبب الأكبر هو صعود الصين”، قال جونسون، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 2024 مع زميليه دارون عجم أوغلو وجيمس روبنسون. وقد ركزت أبحاثهم على المؤسسات الاقتصادية في الحقبة الاستعمارية، وأظهرت أن التجارة كانت العامل الأبرز في نجاح الدول في تجاوز الفقر.
لهذا، من غير المرجح أن ينزلق العالم إلى العزلة الاقتصادية (Autarky)، إذ إن تعقيد سلاسل التوريد العالمية، من مصانع الشرائح الإلكترونية في تايوان إلى موردي قطع الغيار في كندا، يجعل الاكتفاء الذاتي أمرًا شبه مستحيل.
من سيدفع الثمن؟
الدول الأكثر تضررًا من هذه الحرب التجارية ستكون الدول منخفضة الدخل التي تعتمد على تصدير السلع الخام، وليس لديها أوراق قوية للمناورة. أفريقيا في صدارة هذه القائمة، مع دول مثل نيجيريا (14%) وكينيا وغانا (10%) تتلقى ضربات مباشرة من الرسوم الأمريكية.
وتتوقع منظمة التجارة العالمية أن تؤدي هذه الإجراءات إلى خفض حجم التجارة العالمية بنسبة 1% في 2025، وهو تراجع حاد مقارنة بتوقعاتها السابقة بانخفاض قدره 0.1% فقط. وإذا اندلعت حرب تجارية شاملة، فإن الأضرار ستكون أوسع.
هل تكون الأزمة فرصة للعالم؟
رغم التوتر، يرى بعض المتفائلين أن هذه الخطوة قد تسرّع من تقارب الدول الأخرى عبر اتفاقات ثنائية أو تكتلات إقليمية. الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي انسحبت من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، والذي أعيد التفاوض عليه لاحقًا بين باقي أعضائه.
حتى البريكست، رغم تشابهه من حيث الشعارات مع حركة ترامب، لم يُقدَّم كخطوة حمائية. بل روج له مؤيدوه كفرصة لعقد اتفاقيات تجارة أفضل. واليوم، يرى هؤلاء أن الرسوم الأمريكية المخفضة على بريطانيا (10%) مقارنة بالاتحاد الأوروبي دليل على نجاح هذا الطرح.
إقرأ ايضَا: ترامب يطيح برئيس الـNSA بعد مطالبات من لاورا لومر
ستشهد السنوات المقبلة مزيدًا من الاتفاقات التجارية الحرة، فقط بدون الولايات المتحدة”، قال جيسون فورمان، أستاذ السياسات الاقتصادية في جامعة هارفارد. “هذه لحظة مفصلية في مكانة أمريكا داخل النظام التجاري العالمي، لكنها ليست نهاية لقيمة التجارة الحرة بالنسبة للعالم”.