تدريب الشرطة علي خفض التصعيد:مفتاح منع الانفجار الاجتماعي في لحظاته الحرجة
"أهمية التدريب على خفض التصعيد في منع الصدامات وتحقيق التوازن بين حفظ النظام وضمان حرية التعبير"

في لحظات التوتر القصوى، لا يفكر الناس كثيرًا في من يطفئ الحريق بقدر ما يهتمون بإنهائه قبل أن يلتهم كل شيء. وهذا ما يجعل مسألة استدعاء الشرطة أو حتى الحرس الوطني لاحتواء احتجاجات ضخمة – كما حدث مؤخرًا في لوس أنجلوس – مسألة حساسة، لكنها ضرورية في نظر قطاعات واسعة من الجمهور. بين خيار الفوضى أو القمع، يبدو أن الناس يختارون الأخير، ظنًا أنه “أهون الشرّين”. لكن هذا الاختيار قائم على معادلة زائفة، إذ يمكن – عبر تدريب الشرطة على خفض التصعيد وتبني سياسات احترافية – تحقيق التوازن بين حفظ النظام وضمان حرية التعبير.
ما جرى في لوس أنجلوس من احتجاجات واسعة رفضًا لعمليات الترحيل التي قامت بها سلطات الهجرة (ICE)، يجب ألا يُقرأ فقط من منظور سياسي أو أمني، بل كفرصة لاستخلاص دروس مهمة حول طبيعة الرد الأمني ومدى ارتباطه بشرعية الدولة في نظر مواطنيها. وقد حالت عدة عوامل دون تفجر الأوضاع إلى صدامات واسعة النطاق، لكن استمرار تجاهل هذه العوامل قد يؤدي إلى انفجار حتمي في قادم الأيام.
خفض التصعيد أداة حماية مدنية لا تعارضها السلامة العامة
أحد أبرز الدروس المستفادة من أحداث لوس أنجلوس هو أهمية اعتماد تدريب خفض التصعيد كعنصر أساسي في أداء الشرطة، لا كخيار ثانوي. ورغم تعرض الشرطة لاستفزازات متعددة، فإن اللافت هو عدم تسجيل أي إطلاق نار من قِبل العناصر، ما يُعد إنجازًا في ظرف مشحون. الفارق هنا أن الشرطة، خلافًا للجيش، مطالبة بالحفاظ على الأرواح وتعزيز الثقة مع المجتمع، لا ممارسة القوة المميتة ضد “عدو خارجي”.
لا نجاح أمني دون احترام القانون في أصعب الظروف
رئيس شرطة نوكسفيل، بول نويل، علّق على المشهد قائلًا إن “الاحتراف الحقيقي يُقاس بقدرة الشرطي على تطبيق القانون حين يكون ذلك هو الأصعب”. هذه المقاربة تعكس تحولًا ضروريًا في ثقافة العمل الأمني: من منطق “السيطرة بالقوة” إلى فلسفة “الحضور الحازم مع الاحتواء”. وهذا ما يعززه عدد من الأبحاث الصادرة عن مؤسسات مثل مجلس العدالة الجنائية، والتي توضح أن تدريب خفض التصعيد يقلل من إصابات المدنيين دون التأثير سلبًا على فاعلية الشرطة.
القانون يجب أن يُطبَّق دون إغفال الطابع السلمي للاحتجاجات
في خضم أحداث لوس أنجلوس، ركز الليبراليون على سلمية معظم المتظاهرين، بينما سلط المحافظون الضوء على إصابة خمسة عناصر شرطة وحرق سيارات ذاتية القيادة. كلا الطرفين لم يُخطئ، لكن القراءة الأشمل تقول إن قطع الطرق أو تعطيل المصالح – حتى لو لم يكن عنيفًا – لا يُعد سلوكًا قانونيًا، وله تبعات لا يمكن تجاهلها، سواء اقتصادية أو اجتماعية.
ازدواجية المعايير السياسية تُعقّد المعالجة الأمنية
من المفارقات أن من هاجموا احتجاجات لوس أنجلوس، صمتوا أو دعموا إغلاق الطرق من قبل قوافل سائقي الشاحنات في كندا احتجاجًا على إلزامية اللقاح. الاحتجاجان مختلفان أيديولوجيًا، لكن النتيجة واحدة: تعطيل مصالح المواطنين وخلق فراغات أمنية لا يمكن للسلطات غض الطرف عنها. المطلوب هنا ليس الكيل بمكيالين، بل تأسيس معايير ثابتة في التعامل مع الاحتجاج، أيا كان مصدره.
تشابك الهجرة والأمن والجيش يخلق منطقة رمادية
الاحتجاجات في لوس أنجلوس سلطت الضوء على تعقيد العلاقة بين سلطات الهجرة والشرطة والقوات المسلحة. حين يُلقى القبض على شخص دون مذكرة توقيف، بزي مدني ومن دون شارات واضحة، يصبح من الصعب التفريق بين الاعتقال القانوني والخطف. هذا الغموض يفتح الباب أمام انتهاكات محتملة، ويقوض ثقة المواطن بالمؤسسات.
عسكرة الشوارع خطر على الجيش… قبل أن يكون على المدنيين
فكرة نشر الجيش في الشوارع الأمريكية تثير قلقًا بالغًا، ليس فقط لما تحمله من رسائل سياسية، بل لأنها تضع عناصر مدربة على القتال في بيئات مدنية حساسة. وجود الجنود في مواجهة مدنيين غاضبين يهدد صورة المؤسسة العسكرية، بل ويُضعف معنويات الجنود أنفسهم، كما حذر عدد من المسؤولين العسكريين. الجيش ليس جهاز شرطة، وتحميله هذا الدور يُضر بكفاءة الطرفين.
كيف نمنع “الاستثناءات الأمنية” من التحول إلى سياسات دائمة؟
من السهل أن تقبل المجتمعات إجراءات استثنائية في لحظات الأزمة، لكن التاريخ يُظهر أن السلطات نادرًا ما تتخلى عن صلاحياتها الطارئة بعد زوال الخطر. المثال الكندي واضح: استخدم رئيس الوزراء جاستن ترودو “قانون الطوارئ” ضد قافلة الشاحنات، لكن القضاء حكم لاحقًا بأن قراره كان غير قانوني. تكرار هذا النمط يخلق بيئة دائمة من الحكم الاستثنائي، ما يُضعف الديمقراطية ويؤسس لـ”دولة أمنية” أكثر منها دولة قانون.
ما بعد الاحتجاج: دروس الاستعداد للمرحلة المقبلة
بعد أحداث جورج فلويد عام 2020، أجرت مؤسسة الشرطة الوطنية مراجعات لما جرى في عدة مدن، بينها لوس أنجلوس. واليوم، فإن إجراء تقييم شامل لأداء الشرطة في الاحتجاجات الأخيرة يمكن أن يُسهم في تحسين التكتيكات وتجنب الأخطاء. لكن التحدي الحقيقي يبقى في مدى استعداد المؤسسات لتقبّل الدروس الصعبة: أن حفظ الأمن لا يتحقق بالمزيد من القوة فقط، بل بالمزيد من الإصغاء والتوازن بين الحرية والنظام.
خاتمة: بين الحرية والانضباط… مساحة اسمها “المسؤولية”
ما لم تتمكن الدولة من وضع سياسات أمنية تراعي حق المواطن في التعبير وتحفظ أمن المجتمع في آن، فإن كل احتجاج سيكون معرضًا للتحول إلى نقطة اشتعال. خفض التصعيد، ليس مجرد تدريب إضافي لعناصر الشرطة، بل هو فلسفة شاملة في الحكم تُعيد تعريف العلاقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، وتُذكرنا بأن الشرعية لا تُبنى بالعصي، بل بالثقة