الوكالات

السيادة في مهب العاصفة الترامبية: بريطانيا بين القيم والصفقات

في أمريكا ما بعد الانتخابات، باتت “حرية التعبير” شعارًا يُرفع لا لحماية الرأي، بل لفرض الطاعة. فالرئيس العائد إلى البيت الأبيض، دونالد ترمب، لا يرى في مؤسسات الديمقراطية سوى عوائق يجب تهميشها، لا ضمانات يجب صيانتها.
تحت حكمه، أصبحت القوانين قابلة للتأويل بما يخدم مصالحه، وتحوّلت الرقابة المؤسسية إلى رماد، بعد أن عجزت عن ردعه أو محاسبته.

رغم أن نصوص الدستور الأمريكي لم تُمس، فإن روحها باتت مهددة. فما الجدوى من وثيقة عظيمة إذا لم تجد من يدافع عنها؟
هذه ليست مجرد أزمة داخلية، بل موجة فكرية تسعى لفرض نفسها خارج حدود الولايات المتحدة، حيث تسعى إدارة ترمب الآن لاستخدام نفوذها الاقتصادي لفرض رؤيتها لـ”الحرية” على حلفائها… حتى وإن كانت تلك الحرية لا تعني شيئًا أكثر من حرية الشركات الكبرى في التصرف بلا مساءلة.وفقًا لتقرير الجارديان البريطانية

بريطانيا تحت الضغط: اتفاق تجارة بثمن سياسي

مع بدء محادثات التجارة بين بريطانيا وإدارة ترمب، يظهر أن ثمن الاتفاق قد يكون التخلي عن بعض القوانين السيادية. ومن أبرز ما تضعه واشنطن على طاولة المساومة:

  • قانون السلامة على الإنترنت، الذي يحمّل الشركات الرقمية مسؤولية المحتوى الضار.

  • ضريبة الخدمات الرقمية، التي تستهدف شركات التكنولوجيا الأمريكية المتهربة من الضرائب عبر تحويل الأرباح إلى ملاذات ضريبية.

نائب الرئيس الأمريكي، جي دي فانس، ألمح بوضوح إلى أن هذه الإجراءات تُعتبر من وجهة نظر الإدارة “رقابة” على حرية التعبير، ما يجعلها في مرمى الهجوم الأمريكي.

حرية مشروطة: لا تزعج شركات التكنولوجيا الأمريكية

في فبراير، وقّع ترمب مذكرة تؤكد عزم إدارته الدفاع عن شركات التكنولوجيا الأمريكية ضد ما سماه “الابتزاز الخارجي”. هذا يعني عمليًا أن أي قانون يحد من هيمنة هذه الشركات أو يُلزمها بالشفافية والمسؤولية، سيُعتبر تهديدًا للحريات.

لكن المفارقة أن حرية التعبير، بحسب هذا المنطق، تشمل حتى الترويج للكراهية والتحريض، بينما يُنظر إلى أي محاولة للحد من هذه التجاوزات كـ”قمع”.

منصات خاصة، لكن ساحات عامة: معضلة التنظيم

الجدل حول الإنترنت لا يدور فقط حول المحتوى، بل حول من يتحكم في منصات التواصل التي أصبحت بمثابة ساحة عامة. فكيف يمكن حماية النقاش العام من الإساءة والتطرف دون أن يتحول التنظيم إلى رقابة مفرطة؟

القانون البريطاني حاول رسم حدود واضحة، يفرض على المنصات إزالة المحتوى الذي يحض على العنف أو يحتوي على استغلال للأطفال. لكن تنفيذ هذا القانون يصطدم الآن بالمطالب الأمريكية بإضعافه.

السياسة والمصالح تتداخل: تحالف ترمب ووادي السيليكون

ليس خافيًا أن كبار المستثمرين في قطاع التكنولوجيا دعموا ترمب، ويطالبون الآن بعائد سياسي. العلاقة بين المصالح الاقتصادية والإيديولوجيا تبدو أقرب إلى صفقة: الحماية مقابل الولاء.

ففي ظل هذا التحالف، تُعتبر حرية التعبير “حرة” فقط إذا دعمت رواية ترمب، بينما تُصنّف الحقائق التي تناقضها كـ”رقابة”.


انعكاسات داخلية: صدى أمريكي في الخطاب البريطاني

الأمر لا يتوقف عند حدود الولايات المتحدة. في بريطانيا، يتردد الصدى الأمريكي عبر شخصيات مثل كيمي بادينوك، التي تتبنى نفس خطاب “مكافحة الاستيقاظ” وتحذر من سيطرة النخب على مؤسسات الدولة.

لكن التركيز على هذه القضايا الثانوية، مثل سياسات الجامعات أو احتجاجات الطلبة، يغفل التهديد الأكبر: تقويض الديمقراطية من الداخل، عبر سلطة تنفيذية تتجاوز المؤسسات وتحتقر القانون.

قِيَم مشوّهة: هل هذه الشراكة التي نريدها؟

من الصعب قبول دروس في الحرية من إدارة تخنق الإعلام، تلاحق معارضيها قضائيًا، وتجامل الديكتاتوريات. هذه ليست الشراكة الثقافية التي تستحقها بريطانيا، ولا هي “القيم المشتركة” التي يجب أن تستند إليها العلاقات عبر الأطلسي.

إذا كان الثمن لصفقة تجارية هو التخلي عن المبادئ الأساسية في الحكم الرشيد وحرية الإعلام، فإن السؤال الذي يجب أن يُطرح: هل هذه صفقة تستحق التوقيع أصلًا؟

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي خارجي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. يتمتع بخبرة واسعة في التغطية والتحليل، وعمل في مواقع وصحف محلية ودولية. شغل منصب المدير التنفيذي لعدة منصات إخبارية، منها "أخباري24"، "بترونيوز"، و"الفارمانيوز"، حيث قاد فرق العمل وطور المحتوى بما يواكب التغيرات السريعة في المشهد الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى