معركة الموانئ: كوسكو الصينية تقلب صفقة الـ23 مليار دولار وتعيد رسم نفوذ التجارة العالمية
كوسكو الصينية تعيد رسم موازين السيطرة على موانئ بنما في مواجهة النفوذ الأمريكي

في مشهد جديد من التنافس الجيوسياسي والاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة، تسعى شركة كوسكو (COSCO)، عملاق الشحن البحري المملوك للدولة الصينية، للحصول على حصة لا تقل عن 20 إلى 30 في المئة من صفقة شراء ضخمة تبلغ قيمتها 23 مليار دولار تشمل 43 ميناءً، بينها اثنان في قناة بنما. الصفقة، التي وُصفت سابقًا من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنها “استعادة لقناة بنما” لصالح شركات أمريكية، واجهت اعتراضًا حادًا من بكين التي رأت فيها تهديدًا مباشرًا لمصالحها الاستراتيجية. ومع انتهاء فترة التفاوض الحصرية للكونسورتيوم الذي يضم BlackRock وMSC دون التوصل إلى اتفاق، دخلت الصين بقوة على خط الصفقة، محاولة فرض كوسكو كشريك لا غنى عنه لإتمامها، مما يعكس تصاعد تدخل بكين في الملفات التجارية ذات البعد الجيوسياسي حتى خارج حدودها الجغرافية.
النفوذ الصيني في صلب معركة السيطرة على الموانئ
الاعتراض الصيني لم يأتِ من فراغ. فموانئ بنما، وخاصة الواقعة عند مدخل القناة الحيوية، تُعتبر نقاطًا استراتيجية ذات قيمة عالمية في منظومة التجارة البحرية. دخول كوسكو على خط الصفقة – حتى وإن كان دون أصول صينية ضمنها – يبرز تصميم بكين على منع ما تعتبره “خسارة موضع نفوذ” لصالح واشنطن. وفق مصادر مطلعة، فإن الحكومة الصينية لم تكتفِ برفض الصفقة بصيغتها الأصلية، بل أصرت على خضوعها لمراجعة الاندماجات الوطنية لديها، على الرغم من أن الأصول المعنية لا تقع ضمن الأراضي الصينية. هذه الخطوة اعتُبرت إشارة قوية من بكين بأنها لن تقبل بتمرير أي صفقات كبرى في قطاع النقل البحري العالمي دون أن تكون طرفًا أساسيًا فيها.
انهيار الاتفاق الأولي وبروز كوسكو كلاعب حاسم
الاتفاق الأولي بين شركة CK Hutchison – التي يملكها الملياردير لي كا شينغ – والتحالف الذي يضم BlackRock وMSC، كان سيمنح بلاك روك حصة الأغلبية في موانئ بنما، بينما تسيطر MSC على بقية أصول الشركة خارج الصين. لكن مع تصاعد الغضب الصيني، وانتهاء فترة التفاوض في 27 يوليو دون نتائج، أعلن المالك عن نيته إعادة تشكيل الكونسورتيوم، على أن يشمل “مستثمرًا صينيًا رئيسيًا” ضمن هيكله الجديد. وتُرجمت هذه النية في الواقع إلى تحوّل جذري في موازين القوى، إذ باتت كوسكو، وبحسب المطلعين، الجهة الصينية الوحيدة المصرح لها بالمشاركة، ما منحها قدرة تفاوضية ضخمة على باقي الأطراف الراغبة في إنجاح الصفقة.
بكين تمارس سلطتها عبر بوابة التنظيمات المحلية
رفض بكين للصفقة من الأساس، رغم أنها خارج الحدود الصينية، لم يكن مجرد احتجاج سياسي، بل جاء ضمن صلاحيات تنظيمية عبر “إدارة تنظيم السوق” (SAMR). ووفقاً لما نشرته فايننشال تايمز، فإن أي صفقة كبرى تتعلق بموانئ أو شركات شحن لها علاقة بالصين يجب أن تنال موافقة هذه الجهة. هذا يعني أن بلاك روك وMSC، أو أي مستثمر آخر، لن يتمكن من تنفيذ الصفقة دون ضمان شراكة مع كيان صيني يحظى بقبول رسمي، وهو ما جعل كوسكو بيضة القبان. تصريح وزارة الخارجية الصينية، الذي أكد على أن الحكومة “ستحمي الأمن القومي والمصالح التنموية للصين بكل حزم”، يعكس البعد الاستراتيجي الذي توليه بكين لهذا النوع من الصفقات.
ترامب وبلاك روك: تراجع رمزي في مواجهة تشدد الصين
ما يزيد من رمزية الموقف أن الصفقة كانت قد وُصفت من قبل ترامب بأنها “نصر جيوسياسي”، وقد تم الترويج لها بوصفها خطوة لإعادة السيطرة الأمريكية على نقاط استراتيجية لطالما اعتُبر أنها تحت تأثير صيني متنامٍ. حتى الرئيس التنفيذي لبلاك روك، لاري فينك، قدّم إحاطة مباشرة للرئيس ترامب ووزير الخارجية ماركو روبيو حول الصفقة، ما يعكس الثقل الذي أولته واشنطن لهذا المشروع. ومع ذلك، فإن تحول بلاك روك من شريك رئيسي إلى “نقطة خلاف” يُظهر محدودية التأثير الأمريكي حين تُصر بكين على الدفاع عن مصالحها بوسائل تنظيمية وتحالفات اقتصادية موازية.
خيارات جديدة وتحالفات قيد التشكل
في ظل تعقيد الوضع، بدأت شركات أخرى بالتعبير عن اهتمامها بالصفقة، من بينها المجموعة الفرنسية CMA CGM، لكن المصادر أكدت أن لا طرف آخر – عدا كوسكو – قد بدأ مفاوضات فعلية مع CK Hutchison حتى الآن. هذا ما دفع أحد المطلعين على موقف بكين للقول إن “كل المسألة الآن تتمحور حول كيفية إرضاء كوسكو”. وبالفعل، فإن أي تحالف جديد لن يحظى بموافقة الجهات الصينية ما لم يضع كوسكو في موقع مؤثر ضمن الصفقة. وحتى لو تم استبعاد موانئ بنما من الحصة الصينية – وفق أحد الخيارات المطروحة – فإن حصول كوسكو على حصة في بقية الموانئ الـ41 سيمنحها نفوذًا بحريًا دوليًا مضافًا، يعزز شبكة الموانئ التي تديرها بالفعل ضمن مبادرة “الحزام والطريق”.
اقرأ أيضاً
ترامب يستعد لإعلان مرتقب في البيت الأبيض وسط توقعات بفرض رسوم جمركية جديدة
صفقة موانئ بنما لم تعد مجرد عملية استحواذ تجارية، بل تحوّلت إلى معركة جيوسياسية صامتة بين الولايات المتحدة والصين حول النفوذ البحري واللوجستي العالمي. سعي بكين لفرض كوسكو كلاعب أساسي يُظهر كيف لم تعد الصين تكتفي بحيازة أصول، بل باتت تشترط أن تكون طرفًا مقرّرًا في صياغة هيكل أي صفقة استراتيجية. وفي المقابل، يجد المستثمرون الغربيون أنفسهم أمام معادلة جديدة: لا يمكن الاستثمار بحرية في سلاسل النقل العالمية دون موافقة صينية صريحة، حتى في مناطق لا تقع تحت السيادة الصينية. ومع استمرار التحولات في موازين القوى، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ستكون هذه الصفقة نموذجًا جديدًا لعصر تتحكم فيه الحكومات أكثر من الشركات في خرائط التجارة العالمية؟