الوكالات

لماذا تُصرّ إيران على برنامجها النووي؟ جذور الهوية والسيادة في صراع الذرّة

إيران رغم امتلاكها احتياطات هائلة من النفط، تُصرّ إيران منذ عقود على حقها في تخصيب اليورانيوم وتطوير برنامج نووي محلي، ما أثار شبهات دائمة لدى الغرب بشأن نواياها، وفتح بابًا واسعًا لصراع طويل بلغ ذروته بقصف مواقع إيرانية مؤخرًا من قبل إسرائيل والولايات المتحدة. فما الذي يجعل هذا البرنامج بهذه الأهمية لطهران؟ ولماذا بات ركيزة من ركائز هويتها السياسية؟

الاستقلال: المبدأ الذي أضافه الخميني بخط يده

في خريف عام 1978، اجتمع رجلان من أبرز قادة المعارضة الإيرانية ضد الشاه في إحدى ضواحي باريس. كانا آية الله الخميني، الزعيم الديني الذي ناهض الملكية منذ الستينيات، وكريم سنجابي، الأكاديمي الليبرالي المتأثر بالتقاليد الديمقراطية الغربية. كان سنجابي قد أعدّ مسودة إعلان الثورة المرتقبة، متضمنًا مبدأين: أن تكون ديمقراطية وإسلامية. لكن الخميني أضاف مبدأ ثالثًا بخط يده: “الاستقلال”.

هذا المبدأ الأخير – الاستقلال لم يكن مجرد شعار، بل جاء نتاجًا لتاريخ إيراني طويل من الاحتلال والاستغلال. من التدخل البريطاني والروسي في القرن التاسع عشر، إلى الانقلاب الأمريكي-البريطاني على رئيس الوزراء المنتخب محمد مصدق عام 1953 بسبب مطالبته بتأميم النفط. هذا الإرث التاريخي غرس في ذهن قادة الثورة أن السيادة لا تُمنح، بل تُنتزع.

تخصيب اليورانيوم: رمز للسيادة لا للسلاح

من هذا المنطلق، ترى طهران أن الإصرار على تخصيب اليورانيوم ليس مجرد ملف فني، بل قضية سيادة وطنية. فحق تخصيب اليورانيوم داخل الأراضي الإيرانية – حتى وإن توفّر بدائل استيراد من دول مثل روسيا – يُعدّ في العقل السياسي الإيراني دليلًا على الاستقلال التكنولوجي وعدم التبعية للغرب.

لكن في المقابل، يرى مسؤولون أمريكيون أن إصرار إيران على التخصيب المحلي لا يمكن تفسيره إلا كغطاء لرغبة خفية في إنتاج سلاح نووي. النائب الأمريكي جي دي فانس عبّر عن هذا الموقف مؤخرًا بقوله إن تخصيب اليورانيوم إلى مستويات عالية (كما تفعل إيران حاليًا بنسبة تصل إلى 60%) لا يخدم أغراضًا مدنية، بل يمهّد لصناعة القنبلة النووية.

من مشروع إمبراطوري إلى مشروع مقاومة

اللافت أن من أدخل الطاقة النووية إلى إيران في الأصل لم يكن رجال الثورة، بل الشاه نفسه، وبدعم من الولايات المتحدة وبريطانيا ضمن برنامج “ذرات من أجل السلام”. كان الهدف حينها بناء 23 محطة نووية مدنية تُتيح لإيران تصدير الكهرباء، وتُظهرها بمظهر الدولة العصرية. بل إن الشاه لمّح في أحد تصريحاته عام 1974 إلى أن إيران قد تمتلك سلاحًا نوويًا في المستقبل، وهو تصريح سارع إلى نفيه لاحقًا.

لكن بعد الثورة الإسلامية، توقف المشروع النووي تمامًا، واعتبر الخميني التكنولوجيا النووية رمزًا لـ”التغريب السام”. غير أن الضغوط الديمغرافية، والحرب مع العراق، وتعرض إيران لعزلة دبلوماسية، أعادت إحياء البرنامج في تسعينيات القرن الماضي، لكن هذه المرة بروح جديدة: النووي كرمز للصمود الوطني.

النووي كهوية وطنية

يرى المفكر الإيراني الأمريكي “ولي نصر” أن أهم ما بقي من شعارات الثورة بعد 40 عامًا هو مبدأ الاستقلال. فبينما تآكلت قيم الديمقراطية، وجرى تسييس الدين، بقيت فكرة أن “كل القرارات تُتخذ في طهران” جوهرًا ثابتًا للسياسة الإيرانية.

ويشير الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني في مقال له بصحيفة “واشنطن بوست” إلى أن امتلاك إيران لدورة الوقود النووي ليس فقط بدافع تنويع مصادر الطاقة، بل أيضًا لأنه جزء من تعريف الإيرانيين لهويتهم، وحقهم في الكرامة والمكانة العالمية.

من الطموح إلى العبء

مع ذلك، يدفع الإيرانيون ثمنًا باهظًا لهذا التمسك. فقد أدى انسحاب دونالد ترامب من الاتفاق النووي في 2018 إلى عودة العقوبات الأمريكية، وشلّ الاقتصاد الإيراني، وحرمان طهران من عوائد كانت تعوّل عليها. كما فُرضت عليها عزلة دولية، وانهارت الجهود الدبلوماسية التي قادها شخصيات معتدلة مثل روحاني وظريف.

وعلى الرغم من كل ذلك، ترى طهران أن المعركة على البرنامج النووي ليست فقط معركة طاقة أو حتى أمن قومي، بل معركة وجود، وهوية، وكرامة وطنية راسخة في تاريخها الطويل مع التدخل الأجنبي. لذا، فإن وقف هذا البرنامج أو التنازل عن التخصيب، في نظر النظام، يعني التنازل عن استقلالها نفسه وهو الثمن الذي يبدو أنها غير مستعدة لدفعه، مهما كانت العواقب.

يارا حمادة

صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى