السخرية السياسيه في عصر ترامب الثاني:عندما تتفوق النكته المحافظة على الليبرالية
ترامب والسخرية السياسية: تحديات جديدة

في العادة، تشكّل السخرية السياسية أداة فعالة لكشف التناقضات وفضح الأكاذيب وتعرية النفاق السياسي. لكنها تجد نفسها في مأزق حقيقي مع دونالد ترامب، الذي يعود إلى البيت الأبيض دون أن يفقد شيئًا من فوضويته واستعراضه للذات. إذ لم تعد النكات الساخرة تسبقه، بل يبدو أنها تلحق به في محاولة يائسة لمجاراة واقع أغرب من الخيال. فكيف يمكن لك أن تسخر من رجل تبدو كل المبالغات عنه واقعية، وكل الإهانات مجرد اقتباسات حرفية من تصريحاته؟ هذا التحدي أربك صحفًا ساخرة ليبرالية كـ”ذا أونيون”، في حين وجد المحافظون في “بابيلون بي” مساحة أوسع وأريح للضحك… وأحيانًا للانتقاد.
ترامب وأزمة “ما بعد السخرية”: الواقع يهزم النكتة
في عام 2017، نشرت صحيفة “ذا أونيون” كتابًا ساخرًا عن ترامب، احتوى على خريطة تظهر كندا كـ”الولايات الخمسين المقبلة”. ما بدا حينها سخرية، بات اليوم أقرب إلى بيان سياسي متخيل. مؤسس الصحيفة سكوت ديكرز يضحك وهو يقول: “أغلب نكاتنا أصبحت تقرأ الآن كعناوين أخبار حقيقية”. فمع رئيس لا يشعر بالخجل ولا يهتم بالحقيقة، تبدو أدوات السخرية التقليدية بلا فاعلية، كمن يشير إلى أن الماء مبلل.
عقيدة ترامب المضادة للخجل: كيف تحطم الحصانة الكوميدية؟
يصف إيان هيسلوب، رئيس تحرير مجلة “برايفت آي” البريطانية، ترامب بأنه “محصن ضد العار”، وهو ما يجعل السخرية منه أمرًا محبطًا. في الظروف الطبيعية، تُستخدم السخرية لكشف زيف السياسيين وهز صورتهم، لكن ترامب يقلب المعادلة: كل تهمة هي وسام، وكل تناقض هو دليل “عبقرية” عند أنصاره.
“بابيلون بي”: نكتة محافظة بإلهام مسيحي
في مفارقة لافتة، يبدو أن المحافظين في موقع “بابيلون بي” الساخر يتعاملون مع ترامب بسلاسة أكبر من نظرائهم الليبراليين. الموقع، الذي يتبنى توجهًا مسيحيًا محافظًا، لا يتردّد في المزاح بشأن أخطاء ترامب حتى لو دعم سياسته. فعندما نشر الرئيس صورة معدلة بالذكاء الاصطناعي لنفسه كـ”بابا الفاتيكان”، اقترح الموقع أن يرسم وجهه على سقف كنيسة سيستين، ويصدر قرارات بابوية “أكثر رجولة”، مثل سحب القداسة من كل قديس استُشهد لأنه “ضعيف”.
الانتقادات من الداخل: ترامب في مرمى نيرانه الأليفة
على الرغم من انحياز “بابيلون بي” لترامب، فإن كتابه لا يترددون في تسليط الضوء على مزاجيته وغرابة قراراته. إحدى العناوين مثلاً تقول: “ترامب يسحب أسماء الدول من قبعة لتحديد الدولة التالية التي ستُفرض عليها رسوم جمركية”. وفي قضية الجدل حول طرد الطلاب الصينيين، نشر الموقع: “الطلاب الأمريكيون غير متأكدين ممن سيغشون منه بعد طرد الصينيين”.
اليسار هدف سهل للسخرية المحافظة
لا يوفّر الموقع الليبراليين أيضًا، فهو يسخر من النبرة الأخلاقية المتعالية عند الديمقراطيين ومن الفوضى التي ارتبطت بمطالبهم بتقليص تمويل الشرطة. أحد العناوين مثلاً يصور حالة ساخرة: “إيلون ماسك يُخفي مبنى الضرائب على هيئة معرض تسلا حتى يحرقه الليبراليون”. كما ينتقد التوجهات التربوية الغامضة (“وزارة التعليم تؤجل تسريح الموظفين لعدم قدرتها على حساب 50% منهم”).
“قضية إبستين” تكشف تشققات في جدار الموالاة
حتى داخل جمهور “اجعل أمريكا عظيمة مجددًا”، هناك من يشعر بالخيانة بسبب عدم وفاء ترامب بوعوده بالكشف عن قائمة عملاء جيفري إبستين. وهنا يتدخل “بابيلون بي” بسخريته المميزة ويقترح تفسيرات ساخرة منها: “الملف كان على مكتب بوندي، لكن كلبها أكله، ثم أكل بعض الهايتيين الكلب”.
نهاية الشعر البرتقالي: السخرية التقليدية منهكِة ومستهلكة
العودة إلى النكات القديمة عن شعر ترامب أو لونه البرتقالي لم تعد مضحكة. أما صحفه ومساعدوه فيوفرون مادة أكثر طزاجة. صحيفة “ذا أونيون” سخرت من سكرتير الصحة الرافض للقاحات: “روبرت كينيدي الابن يتعهد بجعل وفيات الحصبة شائعة لدرجة أنها لن تزعج أحدًا بعد الآن”. كما سخرت من وكالات الهجرة: “عميل الهجرة يقرر إنجاب أطفال بعدما شاهد الحب المذهل من الآباء المتوسلين له ألا يرحل بأطفالهم”.
“بابيلون” يتفوق رقميًا… والمعركة على الضحك مستمرة
في يونيو، حصد “بابيلون بي” 4.2 مليون زيارة، متفوقًا على “ذا أونيون” التي اكتفت بـ3.1 مليون، رغم ادعائها الساخر بأن لديها “4.3 تريليون قارئ يوميًا”. هذا لا يعني انتصارًا أيديولوجيًا بل يعكس ربما قدرة أكبر على التجدد في السخرية، والتقاط اللحظة بدقة.
الضحك كأداة للفهم لا للشماتة
في النهاية، تذكّرنا هذه التجربة أن الضحك ليس وسيلة للإهانة فحسب، بل أداة لفهم الآخر. عندما تضحك من شيء يعتقده خصمك السياسي مقدسًا، فأنت لا تسقطه بل تقترب منه أكثر. وهو ما لم يدركه ترامب بعد، رغم أن أعظم نكتة أُطلقت عن سياسته الحمائية كانت من أستاذ اقتصاد قال: “ترامب يعاني من مشكلة مع الضمائر. يظن أنه يفرض الرسوم على هم (they/them)، بينما هو في الحقيقة يفرضها على نحن (us).”
اقرا ايضا
هجوم مسلح على محكمه في إيران يكشف هشاشة الأمن في جنوب شرق البلاد