المكسيك على حافة أزمة غاز: بين الاعتماد على واشنطن والبحث عن استقلال الطاقة

تجد المكسيك نفسها اليوم أمام معضلة طاقوية معقدة، إذ بات الغاز الطبيعي يمثل العمود الفقري لمنظومتها الكهربائية، حيث يغطي أكثر من 60% من توليد الكهرباء، معظمها عبر محطات الدورة المركبة. هذا الاعتماد الكبير لم يكن نتيجة طبيعية لتطور داخلي، بل جاء على خلفية موجات استيراد متزايدة من الولايات المتحدة، التي ضخت في 2024 نحو 2.34 تريليون قدم مكعب من الغاز إلى المكسيك، بزيادة تقارب 40% عن مستويات 2018.
لكن هذا الارتباط الوثيق بمصدر خارجي أثار جدلاً سياسيًا وأمنيًا واسعًا، خصوصًا مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وما يحمله من نزعة إلى استخدام أدوات اقتصادية كسلاح ضغط. وفي المقابل، تجد الرئيسة كلوديا شينباوم نفسها أمام تحديات مزدوجة: معالجة إرث سياسات سلفها لوبيز أوبرادور، وإعادة صياغة نهج أكثر براغماتية يجمع بين حماية السيادة وتعزيز الاستثمارات. ومع تواضع قدرات التخزين، وضعف البنية التحتية، وتباطؤ نمو الطاقة المتجددة، يبدو أن أزمة الغاز باتت انعكاسًا لخلل هيكلي يتجاوز حدود قطاع الطاقة، ليضع المكسيك على خط تماس مباشر مع رهانات سياسية واقتصادية كبرى.
تصاعد الاعتماد على الغاز الأمريكي
حتى مطلع القرن الحادي والعشرين، كانت المكسيك مكتفية ذاتيًا من الغاز الطبيعي. غير أن النمو السكاني، واتساع النشاط الصناعي، وتزايد الطلب على الكهرباء دفع الاستهلاك إلى مستويات تفوق قدرة شركة النفط الوطنية “بيمكس” على الإنتاج. ومع تراجع الحقول التقليدية وتفضيل الشركة الاستثمار في النفط الأكثر ربحية، بلغ إنتاج الغاز ذروته في 2009 قبل أن يدخل مرحلة انحدار طويلة. عندها شكل طفرة الغاز الصخري في تكساس فرصة ذهبية؛ فبنيت خطوط أنابيب جديدة لربط الأسواق، وشرعت شركة الكهرباء الحكومية (CFE) في الاعتماد بشكل متسارع على الغاز المستورد لتغذية محطات الدورة المركبة. النتيجة أن الولايات المتحدة باتت المورد شبه الحصري للغاز المكسيكي، ما جعل أكثر من ثلثي استهلاك البلاد مرهونًا بالتطورات على الجانب الشمالي من الحدود.
فشل إصلاحات 2013 وانعكاس سياسات لوبيز أوبرادور
كان من المفترض أن يشكل إصلاح الطاقة في 2013 نقطة تحول، إذ فتح القطاع أمام استثمارات خاصة لتوسيع الإنتاج وبناء مرافق التخزين. لكن مع تولي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور السلطة في 2018، انقلب المشهد. الرجل تبنى خطابًا شعبويًا يرفض “التبعية”، لكنه عمليًا أوقف مدفوعات عقود خطوط الأنابيب، وقلص صلاحيات الهيئات المستقلة، وأبعد الشركات الأجنبية. ركز على دعم بيمكس المثقلة بالديون رغم ضعف إنتاجها. كما وقف ضد مشاريع الطاقة المتجددة، وأغلق الباب أمام التكسير الهيدروليكي. هذه السياسات قوضت ثقة المستثمرين وأدت إلى جمود داخلي، لتظل المكسيك أكثر ارتباطًا بالواردات الأمريكية بدلًا من تقليل الاعتماد عليها. النتيجة أن ما كان يُفترض أن يكون مسارًا نحو تنويع مصادر الطاقة تحول إلى مسار يرسخ التبعية نفسها.
الهاجس السياسي: ترامب كورقة ضغط
عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أججت المخاوف في مكسيكو سيتي. فرغم أن خبراء يرون أن قطع الغاز عن المكسيك أمر غير واقعي اقتصاديًا، إذ تستحوذ على نحو 70% من صادرات الغاز الأمريكي عبر الأنابيب، فإن ترامب لطالما استخدم أدوات تجارية كسلاح سياسي. بالنسبة لشينباوم وحزبها “مورينا”، فإن الاعتماد شبه الكلي على الغاز الأمريكي يترجم إلى فقدان سيادة استراتيجية، ويمنح واشنطن ورقة ضغط ثقيلة. ومع تصاعد خطاب الحمائية وإمكانية توظيف الطاقة في المساومات التجارية أو ملفات الهجرة، يظل هاجس “انقطاع الإمدادات” حاضرًا بقوة في النقاش الداخلي، حتى وإن كان مستبعدًا عمليًا.
أزمة غياب التخزين والمرونة
إذا كان مصدر الغاز مضمونًا نسبيًا، فإن مكمن الضعف الحقيقي يكمن في قدرة المكسيك على التخزين. فالدولة لا تمتلك سوى احتياطي يعادل يومين من الاستهلاك، مقارنة بأكثر من 30 يومًا في إسبانيا وأكثر من 100 في فرنسا. هذه الفجوة ظهرت بوضوح خلال موجة الصقيع في تكساس عام 2021، حين تراجعت الإمدادات وتعرضت المصانع والمنازل المكسيكية لانقطاعات كهربائية فورية. غياب منشآت تخزين استراتيجية يجعل البلاد عرضة لأي تقلب في العرض أو الأسعار. وهنا تتجلى هشاشة البنية الطاقوية: مجرد اضطراب مؤقت في الولايات المتحدة يكفي لشل أجزاء واسعة من الاقتصاد المكسيكي.
التأثير على الطاقة المتجددة
الاعتماد على الغاز الرخيص لم يكن فقط مسألة سيادة أو أمن، بل أيضًا عائقًا أمام الانتقال الطاقوي. فبينما تمتلك المكسيك إمكانات هائلة في الطاقة الشمسية والرياح يمكنها نظريًا أن تغطي أكثر من 100 ضعف احتياجاتها، لم تتجاوز مساهمة هذه المصادر 22% من توليد الكهرباء في 2024، أي أقل بكثير من الهدف الوطني البالغ 35%. السبب أن الغاز المستورد من تكساس يقدم كلفة منخفضة تغري السلطات بالاستمرار في الاعتماد عليه بدلًا من تحمل تكاليف تطوير مشاريع متجددة. وبذلك أصبحت الوفرة الرخيصة “سيفًا ذا حدين”: فهي توفر استقرارًا مرحليًا لكنها تؤخر التحول إلى منظومة مستدامة وصديقة للمناخ.
خطة شينباوم: بين الأيديولوجيا والبراغماتية
الرئيسة كلوديا شينباوم، وهي عالمة مناخ في الأصل، تبدو أكثر واقعية من سلفها. فهي تطرح خطة لزيادة إنتاج الغاز المحلي بنسبة 25% بحلول 2030، وبناء مرافق تخزين جديدة، وتحديث خطوط الأنابيب. كما لمح بعض مساعديها إلى إمكانية السماح بالتكسير الهيدروليكي في بعض الحقول، رغم نفي قيادة بيمكس لذلك. في الوقت ذاته، تحاول الموازنة بين رغبتها في فتح الباب أمام شراكات عامة–خاصة وحاجتها إلى إرضاء قواعد حزب “مورينا” التي ترفض أي تقليص لدور الدولة. هذا التوازن الدقيق بين الأيديولوجيا والبراغماتية قد يحدد مدى نجاح استراتيجيتها في تفادي أزمات قادمة.
معضلة بيمكس: عملاق عاجز
تبقى شركة بيمكس نقطة الضعف الأبرز في معادلة الطاقة المكسيكية. الشركة مثقلة بديون ضخمة وتعاني من ضعف الخبرة التقنية، خاصة في استغلال حقول