الإيكونوميست: كوريا الشمالية تهديد يتفاقم ويصعب احتواؤه

تتسارع الأحداث في شبه الجزيرة الكورية نحو مشهد أكثر توتراً وتعقيداً. ورغم الخطاب الودي الذي تبادله الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتبنّي رئيس كوريا الجنوبية لي جاي ميونغ شعار “التعايش السلمي”، إلا أن الواقع على الأرض مختلف تماماً. فبيونج يانج ضاعفت ترسانتها النووية، وأجرت تجارب صاروخية متكررة، وشدّدت قبضتها الأمنية، بينما عززت تحالفاتها الخارجية مع روسيا واحتفظت بهامش مناورة مع الصين. هذه المتغيرات تجعل احتمالات تقليص التوتر أضعف من أي وقت مضى، وتؤكد أن الدبلوماسية وحدها لم تعد كافية لإيجاد مخرج من الأزمة، بل إن خطر التصعيد يبدو أقرب من الانفراج.
ميزان قوة مختل في بيئة تفاوض جديدة
لم تعد كوريا الشمالية اليوم تلك الدولة الباحثة عن قمة رمزية مع واشنطن، بل تحوّلت إلى قوة أكثر تسلحاً وثقة. الشراكة العسكرية والتقنية مع موسكو منحت بيونج يانج دعماً غذائياً وطاقوياً، مقابل إمدادات ذخيرة ومقاتلين للحرب في أوكرانيا. هذا التحالف أتاح لها رافعة تفاوضية استراتيجية وحدّ من فاعلية الضغوط الدولية. ومع قدرتها على الموازنة بين الصين وروسيا، تقلّصت فرص المجتمع الدولي لإجبارها على تقديم تنازلات، لتصبح احتمالات نزع السلاح النووي شبه معدومة.

“تشمالنة” كوريا الشمالية… دولة أكثر قمعاً
منذ فشل محادثات 2019، بدأت بيونج يانج في مسار انغلاق كامل. فقد طردت الدبلوماسيين وعطلت المساعدات الإنسانية، وأحكمت سيطرتها على الحدود مع الصين. تراجع عدد الفارين إلى الجنوب إلى أقل من 160 سنوياً مقارنة بأكثر من ألف سابقاً. كما شنت حملة على الثقافة الكورية الجنوبية عبر قوانين متتابعة، وصلت إلى حد تجريم استخدام كلمات دارجة مثل “أوبا”. الرقابة الرقمية باتت أداة مركزية، من الهواتف المزوّدة ببرمجيات تجسسية إلى تفتيشات على الملابس وقصات الشعر، بعقوبات قد تصل للإعدام.
خنق المعلومات… بقرار داخلي وخارجي
تاريخياً اعتمدت سيول وواشنطن على البث الإذاعي لاختراق العزلة الإعلامية. لكن تخفيض التمويل الأمريكي وتقليص ساعات البث بين مايو ويوليو 2025 أضعفا هذه القناة. أُغلقت محطات إضافية، وتراجع دور المنظمات المستقلة. ورغم ذلك، تؤكد شهادات نازحين أن استهلاك المحتوى الأجنبي لم ينقطع، بل أصبح أكثر سريّة، متداولاً في دوائر ضيقة. هذه الديناميكية تكشف أن “الأكسجين المعلوماتي” لم يُغلق بالكامل، لكنه بات هشّاً ومهدداً، ما يجعل قدرة العالم على التأثير في الداخل الكوري الشمالي محدودة.
اقتصاد يتحول إلى “اشتراكية متشددة”
بعد عقود من التساهل مع الأسواق الشعبية التي غذت الاقتصاد، انقلب كيم جونج أون على هذا المسار. السلطات شددت القيود على الصرافة وتجارة العملة الأجنبية، وفرضت رسوماً أعلى وأغلقت أسواقاً مركزية. كما حظرت بيع سلع أساسية خارج القنوات الرسمية. مع رفع الأجور الحكومية دون زيادة في السلع، انفجر التضخم وانهارت قيمة الوون. ورغم مشروعات دعائية مثل خطة “20×10″، يبقى الاقتصاد غير الرسمي، الذي يشكّل نحو 70% من دخل الأسر، عصياً على السيطرة الكاملة دون قمع واسع.
المظلة الروسية والصينية تنقذ الاقتصاد
الدعم الخارجي هو ما يحول دون انهيار مفاجئ. فروسيا تستقدم عمالاً كوريين شماليين، وتوفّر النفط بكميات ضخمة، في خرق للعقوبات الأممية. أما الصين فتبقى أكبر شريك تجاري، تشتري صادرات أولية بينها الشعر البشري المستخدم في صناعة الباروكات. إغلاق آلية رقابة العقوبات مطلع 2024 سمح بمرور هذه الأنشطة بسهولة أكبر. ومع هذا الغطاء المزدوج، اكتسب كيم أوراق ضغط إضافية، جعلته أقل حاجة لتنازلات مقابل رفع العقوبات كما كان في قمم 2018–2019.
النووي… من ورقة مساومة إلى أمر واقع
تقترب بيونج يانج من هدفها الأكبر: فرض الاعتراف بها كقوة نووية. موسكو خففت انتقاداتها، بينما امتنعت بكين عن استخدام تعبير “نزع السلاح” في بياناتها الأخيرة. داخل الولايات المتحدة، يصف بعض المسؤولين الشمال كقوة نووية بحكم الأمر الواقع. كيم نفسه أعلن أن أي لقاء مع ترامب مشروط بتخلي واشنطن عن “هوس نزع السلاح”. بهذا التحول، صار سقف أي مفاوضات محتملة أدنى بكثير من الماضي، ما يرسّخ النووي كجزء ثابت من المشهد الأمني في المنطقة.

تهديدات إقليمية أكثر هشاشة
التحركات العسكرية لكوريا الشمالية تتزامن مع خطاب عدائي غير مسبوق ضد الجنوب الذي بات يُصنَّف “دولة معادية”. هذا الانفصال الرمزي يعزز عسكرة الحدود ويزيد خطر سوء التقدير. إلى جانب ذلك، يشكل دعم الشمال للحرب الروسية في أوكرانيا بقدرات بشرية وذخائرية طبقة جديدة من التعقيد، تربط بين صراعين جيوسياسيين في شرق أوروبا وشرق آسيا. وبالنسبة لواشنطن وحلفائها، تقلّصت أدوات الضغط التقليدية، ما لم تُعزَّز ببدائل عسكرية واقتصادية متعددة الأطراف.
توريث مبكر… رسائل ثقة لا تهدئة
إشراك كيم جو آي، الابنة التي يُرجح أنها الوريثة المقبلة للسلطة، في مناسبات بارزة مثل التجارب الصاروخية والعروض العسكرية، يعكس إصرار النظام على ترسيخ شرعية الحكم العائلي وضمان استمراره لمدى بعيد. هذه الرسائل الموجهة للداخل والخارج معًا تعني أن النخبة الحاكمة واثقة من تماسكها الداخلي، وغير معنية بأي تسويات قد تُضعف ركائز سلطتها الصارمة. وبالنسبة للعالم الخارجي، فإن هذا التوريث المبكر يبدد الآمال في تغييرات سياسية جوهرية، ويزيد من صعوبة الرهان على تحولات مستقبلية في سياسات بيونج يانج النووية والعسكرية.
لماذا يشتد التهديد الآن؟
التصعيد الحالي يعكس تلاقي عدة عوامل متشابكة، أبرزها الدعم الروسي والصيني الذي أضعف فاعلية العقوبات الدولية، ومنح النظام الكوري الشمالي مظلة أمان استراتيجية. داخليًا، شددت بيونج يانج قوانينها لتقليص أي اختراق ثقافي أو اقتصادي، فيما أعاد النظام إحكام قبضته على الأسواق، مانحًا الدولة أدوات إضافية للسيطرة الاجتماعية. وإلى جانب ذلك، غيّر كيم جونج أون خطابه من الدعوة إلى “التوحيد” مع الجنوب إلى اعتباره “عدوًا معلنًا”، ومن القبول بخطوات مرحلية لنزع السلاح إلى المطالبة باعتراف صريح بقدراته النووية. هذه التحولات البنيوية جعلت التهديد أكثر تعقيدًا، وضيّقت مساحة المناورة أمام خصومه.
خيارات أمام صانعي القرار
التعامل مع كوريا الشمالية يتطلب مقاربة متعددة الأدوات: إعادة تمويل مشاريع البث والمعلومات البديلة، وفرض عقوبات ذكية على سلاسل التوريد الحساسة، وتعزيز الردع الإقليمي عبر تنسيق أمريكي–ياباني–كوري جنوبي. كما ينبغي فتح قنوات تفاوض واقعية، تركز على ضبط المخاطر بدل الرهان على نزع السلاح الكامل. وبالتوازي، على الجنوب تعزيز صلابته الداخلية، من الإعلام إلى برامج استقبال الفارين. هذه الاستراتيجية وحدها يمكن أن تقلل خطر سوء التقدير وتمنع المنطقة من الانزلاق إلى صراع واسع.
كوريا الشمالية: قمع داخلي وتهديد خارجي
تجمع كوريا الشمالية اليوم بين عزلة خانقة واقتصاد مُسيّس مدعوم من قوتين عظيمتين، مع ترسانة نووية وصاروخية متنامية. وبينما تواصل إطلاق إشارات دبلوماسية رمزية، تبدو أقل من أي وقت مضى استعداداً لتنازلات جوهرية. إن التحدي أمام المجتمع الدولي يكمن في ابتكار مقاربات أكثر مرونة، تمزج الردع بالضغط الذكي، وإلا ستبقى بيونج يانج لاعباً محصناً يوسّع ابتزازه النووي ويدفع المنطقة إلى حافة هشاشة طويلة الأمد.