اليابان تواجه أزمة “الاختصار المفرط”: تقلص العمالة يهدد قطاعات الحياة كافة

يشير الصحفي ليو لويس إلى أن اليابان باتت تعاني من ما يسميه بـ”الاختصار المفرط” — أو enshortification — أي التقلص الحاد في القوى العاملة الذي أصاب كل المهن والقطاعات تقريبًا، من الحرفيين والعمال إلى الطهاة والسائقين والجنود وحتى المحاسبين.
فاليوم، لم تعد أزمة نقص العمالة مجرد مسألة إزعاج إداري، بل تحولت إلى تهديد وجودي لبنية المجتمع والاقتصاد اليابانيين.
تاكائيتشي… أول رئيسة وزراء في لحظة تاريخية صعبة
مع انتخاب ساناي تاكائيتشي زعيمة للحزب الليبرالي الديمقراطي، ومن ثمّ أول امرأة تتولى رئاسة الحكومة في تاريخ البلاد، يسود شعور مزدوج من الأمل والقلق.
فطريقها إلى السلطة جاء ممهدًا بتضخم الأسعار وسخط شعبي متزايد على فشل الحكومة السابقة في التعامل مع الأزمة الاقتصادية. لكن التحدي الأكبر أمامها لا يكمن في السيطرة على الأسعار فحسب، بل في إدارة اقتصادٍ يعاني من انكماش بشري متسارع.
بعد سبعين عامًا من الحكم شبه المتواصل، تبدو الأفكار الجديدة نادرة في صفوف الحزب الحاكم، بينما تراكمت آثار السياسات القديمة التي لم تُجدِ نفعًا. ومع تراجع معدلات المواليد وشيخوخة السكان، تواجه اليابان الآن تراجعًا حادًا في أعداد العاملين، يصاحبه عجز عن مواكبة الفرص التكنولوجية الجديدة وانخفاض في جودة الخدمات العامة.
مهن تختفي وأخرى على وشك الانقراض
تشير الأرقام إلى أن ظاهرة “الاختصار” تضرب كل المهن تقريبًا:
انخفض عدد النجّارين إلى النصف منذ عام 2020، ويبلغ عمر 43% ممن تبقوا أكثر من 65 عامًا.
شركات النقل في طوكيو اضطرت إلى إلغاء أكثر من 200 خط للحافلات بسبب نقص السائقين.
الجيش الياباني فشل في تحقيق أهداف التجنيد السنوية.
وزارة الخارجية أعلنت عجزها عن توظيف طهاة يابانيين في سفاراتها حول العالم.
في بعض القرى الريفية، يتولى مسنون في الثمانينيات توصيل الطرود على دراجات صغيرة.
وهناك نقص خطير في المحاسبين القانونيين، ما يهدد الأعمال والشركات.
النتيجة: خدمات أبطأ، ومهارة أقل، وتعامل أقل لباقة، وتجربة عامة أقل تميزًا مما اعتاده المجتمع الياباني لعقود.
تآكل الرفاهية في مجتمع “الجودة القصوى”
لطالما اعتزت اليابان بثقافة الخدمة المثالية والدقة والانضباط، لكن نقص الأيدي العاملة جعل كل شيء يبدو أقل كفاءة وأقل لطفًا.
ومع ارتفاع الأسعار بوتيرة أسرع من نمو الأجور، يشعر المواطنون بأن جودة الحياة تتراجع رغم ثراء البلاد.
وقد استغلت بعض الأحزاب الشعبوية هذا الغضب في حملاتها الانتخابية، إلا أن الإحباط الشعبي حقيقي وعميق.
بين الروبوتات والهجرة: خيارات محدودة
تعهدت تاكائيتشي، فور فوزها بالمنصب، بأنها “ستعمل بلا توقف، كالحصان”، في إشارة إلى جديتها في مواجهة الأزمة، لكنها تعلم أن العمل الفردي لن يحل مشكلة ديموغرافية مزمنة.
قد تتمكن بعض القطاعات من استخدام الذكاء الاصطناعي والروبوتات كحل جزئي، لكن الواقع أن التكنولوجيا لا يمكنها سد فجوة القوى البشرية في المستقبل القريب.
وهكذا يبقى الخيار الوحيد — ولو على مضض — هو فتح الباب أمام الهجرة.
تاكائيتشي والملف الحساس: الهجرة كضرورة وطنية
رغم ميولها القومية المحافظة، تمتلك تاكائيتشي ما يصفه الكاتب بـ”ميزة مزدوجة” في التعامل مع هذا الملف الشائك:
حصانة سياسية من اليمين المتشدد: كونها قومية محافظة يجعل من الصعب على خصومها من اليمين مهاجمتها إذا خفّفت قيود الهجرة. يمكنها تبرير ذلك بأنه “واقعية مؤلمة” وليس تغييرًا أيديولوجيًا.
الاستعداد لفتح النقاش علنًا: على عكس أسلافها، أبدت تاكائيتشي استعدادًا للتحدث عن الهجرة بشكل صريح، كجزء من حوار وطني حول مستقبل اليابان.
وهو نهج ذكي، لأن غضب الشارع الياباني لا يتجه نحو المهاجرين أنفسهم، بل نحو غياب الشفافية الحكومية في مناقشة آثار الهجرة على الثقافة والمجتمع والمالية العامة.
أزمة لا يمكن تأجيلها
مع تفاقم “الاختصار” في كل جانب من جوانب الحياة — من المصانع إلى المدارس والمطاعم — تبدو اليابان أمام خيار مصيري:
إما الانغلاق ومزيد من الانكماش، أو الانفتاح التدريجي على العالم عبر الهجرة والتكنولوجيا.
وتبدو تاكائيتشي، رغم تشددها الأيديولوجي، أكثر الزعماء قدرة على قيادة هذا التحول بحذر وواقعية. فالمشكلة لم تعد قابلة للتأجيل — واليابان مطالَبة اليوم بإعادة تعريف نفسها قبل أن تختصرها الشيخوخة إلى نصف حجمها.



