فاينانشال تايمز: لماذا لم تستطع الولايات المتحدة الانسحاب من الشرق الأوسط؟

ثمانية عقود مضت على اللقاء التاريخي بين الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت والملك عبدالعزيز آل سعود على متن المدمرة “يو إس إس كوينسي” عام 1945، ومع ذلك ما زال الحضور الأمريكي في الشرق الأوسط قائمًا بقوة لا تخطئها العين. فعلى الرغم من تعهدات متكررة من رؤساء أمريكيين — من باراك أوباما إلى دونالد ترامب — بالانسحاب من المنطقة والتركيز على آسيا، إلا أن الواقع السياسي والعسكري يثبت أن واشنطن لم تستطع الفكاك من الشرق الأوسط. فكلما حاولت تقليص وجودها، استدعتها الأزمات الكبرى إلى قلب المشهد من جديد، ما جعل المنطقة أشبه بحلقة لا تنكسر في منظومة الأمن القومي الأمريكي، ومسرحًا ضروريًا لبقاء الولايات المتحدة في موقع القيادة العالمية.
فشل التحول إلى آسيا
حين أعلنت واشنطن عن “التحول نحو المحيطين الهندي والهادئ”، بدا أن عهد الانغماس في أزمات الشرق الأوسط يقترب من نهايته. لكن التطورات اللاحقة أثبتت عكس ذلك تمامًا. ففي عام 2025، شنت الولايات المتحدة عملية “مطرقة منتصف الليل” ضد المنشآت النووية الإيرانية، فيما سعت إدارة ترامب إلى تنفيذ المرحلة الأولى من خطة سلام إسرائيلية-فلسطينية تتضمن نشر قوة استقرار دولية في غزة. وعلى الرغم من تراجع اعتمادها على نفط الخليج، لا يزال نحو 40 ألف جندي أمريكي ينتشرون في قواعد تمتد من البحرين إلى قطر والعراق. هذا الوجود يعكس حقيقة أن المصالح الإستراتيجية والأمنية تجعل الانسحاب الكامل من المنطقة أمرًا مستحيلًا من الناحية الواقعية.
دروس “الفشل الثنائي الحزبية”
يرى الكاتب إدوارد غانيش في «فاينانشال تايمز» أن السياسة الخارجية الأمريكية تُدار غالبًا وفق منطق “الاضطرار لا الاختيار”، إذ تفرض الأحداث الدولية نفسها على أجندة واشنطن مهما اختلفت الإدارات. فاندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس جعل من المستحيل على الولايات المتحدة التزام الحياد، لأن أي غياب أمريكي يُفسر كضعف في القيادة العالمية. كما أن محاولات إعادة توجيه الاهتمام نحو أوروبا أو آسيا كثيرًا ما تتعطل بسبب الأزمات المفاجئة في الشرق الأوسط أو أوكرانيا. أما داخليًا، فإن الانقسام الحزبي لا يلغي توافقًا ضمنيًا بين الديمقراطيين والجمهوريين على أن الحضور الأمريكي في المنطقة ضروري لحماية المصالح الإستراتيجية والحفاظ على صورة الدولة العظمى.
الهيبة الأمريكية تمنع الانسحاب
تحتفظ الولايات المتحدة بنفوذ واسع في الشرق الأوسط، يفوق ما تملكه في أي منطقة أخرى من العالم، بفضل تحالفاتها الممتدة من الخليج إلى المشرق. الدول الإقليمية تعتمد بدرجات متفاوتة على المظلة الأمريكية سواء في الدفاع أو التكنولوجيا أو الاقتصاد، مما يجعل واشنطن محورًا لا غنى عنه في معادلة الأمن الإقليمي. ويشير الكاتب إلى أن أمريكا تجد في الشرق الأوسط المسرح الوحيد الذي لا تزال قادرة فيه على ممارسة نفوذها الكامل كقوة عظمى. فوجودها العسكري والسياسي يمنحها أدوات تأثير مباشرة لا تتوافر لها في مناطق أخرى مثل شرق آسيا أو إفريقيا، الأمر الذي يجعل الانسحاب الكامل أشبه بتخلٍ طوعي عن القيادة الدولية.
فشل “الانعزالية الأمريكية” كفكرة
تعود فكرة الانعزالية في السياسة الأمريكية إلى قرون مضت، لكنها لم تتحقق يومًا بشكل كامل، إذ يمنع الكبرياء الوطني أي إدارة من التخلي عن النفوذ الخارجي طوعًا. فالدول الأوروبية، كالبريطانيين والفرنسيين، انسحبت من مستعمراتها نتيجة أزمات اقتصادية وضعف داخلي، أما الولايات المتحدة فما زالت تملك الموارد والإمكانات التي تسمح لها بالبقاء في مواقع القوة. لذا يرى غانيش أن الحديث المتكرر عن انسحاب أمريكي من الشرق الأوسط ليس سوى وهم سياسي يتجدد مع كل إدارة جديدة، لأن واشنطن لا تزال ترى في المنطقة اختبارًا حقيقيًا لهيبتها وقدرتها على فرض إرادتها في النظام الدولي.
ثبات التاريخ وتكرار الأنماط
يربط الكاتب بين تمسك الولايات المتحدة بالشرق الأوسط وبين نمط أوسع من “الجمود التاريخي” في العلاقات الدولية، حيث تعيد القوى الكبرى إنتاج سلوكها رغم تغير الظروف. فبعد هجمات 11 سبتمبر، اعتقد العالم أن الحروب بين الدول باتت من الماضي، لكن الغزو الروسي لأوكرانيا أعاد هذا النموذج إلى الواجهة. وبعد جائحة كورونا، توقع البعض نهاية المدن المزدحمة، لكنها سرعان ما استعادت حيويتها. وبالمنطق ذاته، فإن فكرة انسحاب أمريكا من الشرق الأوسط تتكرر دوريًا في الخطابات السياسية دون أن تتحقق فعليًا، لأن الواقع الجيوسياسي يعيد واشنطن دائمًا إلى المنطقة مهما حاولت الابتعاد عنها.
الشرق الأوسط.. الثابت في السياسة الأمريكية
من روزفلت إلى بايدن، ومن حرب الخليج إلى الصراع الفلسطيني، ظلّ الشرق الأوسط الثابت الوحيد في السياسة الخارجية الأمريكية رغم تغير الرؤساء والأولويات. فبينما تتبدل الشعارات من “نهاية الحروب الطويلة” إلى “التحول إلى آسيا”، يبقى الوجود الأمريكي في المنطقة عنصرًا مركزيًا في حسابات الأمن والاقتصاد العالمي. ويختتم الكاتب بنبرة ساخرة: “حين يعدّ الرئيس الأمريكي القادم بالابتعاد عن الشرق الأوسط، لا تصدقوه”، مؤكدًا أن التاريخ يثبت مرة تلو الأخرى أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تبتعد عن المنطقة، لأنها ببساطة لا تعرف كيف تعيش من دونها.



