الاقتصاد

فيينا.. يوتوبيا الإيجار التي تنافس العالم في عداله السكن

"نظام إسكان فريد يغطي 43% من المدينة ويوفر أسعارًا معقولة وجودة عالية"

تحوّلت فيينا، عاصمة النمسا، إلى نموذج يُحتذى به في سياسات الإسكان، حتى وصفها البعض بأنها “يوتوبيا المستأجرين”. فبينما تتعثر كبريات العواصم الأوروبية في إدارة أزمة السكن، استطاعت فيينا أن تخلق نظامًا يوازن بين العدالة الاجتماعية والجودة العمرانية.

 

نظام إسكان اجتماعي يغطي 43% من المدينة

في قلب التجربة الفيينية يقبع نظام الإسكان الاجتماعي، الذي يشكل نحو 43% من إجمالي مليون وحدة سكنية في المدينة. نصف هذا الرقم تقريبًا مملوك مباشرة للبلدية (إسكان بلدي)، بينما يديره النصف الآخر جمعيات إسكان غير ربحية، وهي كيانات يُسمح لها بتحقيق أرباح بسيطة لتغطية التكاليف، دون تجاوز أهداف العدالة الاجتماعية.

 

المميز في التجربة أن السكن الاجتماعي ليس حكرًا على الفقراء، بل يشمل فئات الطبقة الوسطى وحتى بعض شرائح الطبقة فوق المتوسطة، ما يعزز التنوع الطبقي ويمنع التهميش داخل النسيج الحضري.

 

النتائج واضحة: أسعار أقل وجودة أعلى

تشير الأرقام إلى أن أسعار الإيجار في القطاع الاجتماعي أقل بنحو 30% من مثيلاتها في السوق الخاصة. وفي بعض الحالات، تتفوق جودة الشقق في الجمعيات السكنية غير الربحية على المعروض في السوق المفتوحة. كما أن وفرة السكن المدعوم تساهم في خفض الأسعار حتى في القطاع الخاص عبر خلق توازن قهري في العرض والطلب.

 

جذور التجربة.. من “فيينا الحمراء” إلى تمويل دائم بالرواتب

تعود جذور المشروع إلى عشرينيات القرن الماضي خلال فترة “فيينا الحمراء”، عندما أطلقت الأحزاب الاشتراكية مشاريع إسكان واسعة بتمويل من ضرائب تصاعدية. اليوم، لا تزال الحكومة المحلية تحت قيادة الاشتراكيين، وتُموّل مشروعات الإسكان جزئيًا من خلال ضريبة بنسبة 1% على رواتب جميع العاملين في المدينة.

 

ورغم تراجع بناء المساكن البلدية منذ الثمانينيات، فإن الجمعيات غير الربحية وسّعت نشاطها، مما حافظ على نسبة السكن الاجتماعي مستقرة نسبيًا منذ التسعينيات، على عكس مدن مثل لندن وبرلين التي تضررت بفعل الخصخصة.

 

التخصيص المعقد.. من يعرف النظام يفوز بالمنزل

ورغم إشادات العالم، فإن النظام ليس خاليًا من العيوب. إحدى أبرز العقبات تكمن في تعقيد آلية التوزيع. فالحصول على شقة يتطلب التقديم عبر قوائم انتظار تخضع لتقييم الحاجة والدخل، لكن هناك طرقًا غير مركزية من قبل جمعيات الإسكان تجعل النظام غير شفاف للجميع.

 

وتشير التقارير إلى أن الأفضلية تُمنح غالبًا لمن يعرف كيف “يتعامل” مع البيروقراطية، أو من يعيش في المدينة منذ فترة طويلة، على حساب الوافدين الجدد أو غير المطلعين على الإجراءات.

 

السوق الخاص تغيّر.. ومأوى الوافدين لم يعد رخيصًا

كان القطاع الخاص في الماضي يُعتبر ملاذًا ميسور التكلفة للقادمين الجدد إلى سوق السكن، رغم تدني جودته. لكن في الثمانينيات، تم تحرير قوانين الإيجار بشكل جزئي، ما سمح بزيادة الأسعار في الأحياء ذات الأراضي الأغلى، وتمكين العقود المؤقتة.

 

ورغم تحسين جودة المساكن، فإن التحرير أدى إلى فقدان قطاع كبير من الشقق الرخيصة، ما وضع عبئًا إضافيًا على الأسر الفقيرة والوافدين الجدد الذين لا يمكنهم دخول سوق السكن الاجتماعي بسهولة.

 

الدرس الأهم: السكن قرار سياسي وليس قدَرًا

ربما يكون أهم ما تثبته تجربة فيينا هو أن السياسات طويلة الأمد والمستمرة تصنع الفرق. فالمدينة لم تحقق معجزة الإسكان عن طريق الصدفة، بل عبر شبكة معقدة من الفاعلين: من الحكومات المحلية والفيدرالية، إلى المطورين والمخططين والجمعيات البنكية وشركات البناء.

 

الرسالة واضحة: عندما تُعامَل السكن كحق أساسي وليس كسلعة، يمكن بناء نظام سكني أكثر عدالة واستقرارًا من أي سوق مفتوح.

أقرأ أيضا:

أصوات معزولة في قلب الامازون:قبيله ماشكو بيرو في مواجهة الجشع البشري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى