
في أكتوبر عام 1973، كنت على ضفاف قناة السويس أوثّق استسلام الجيش المصري الثالث، جنبًا إلى جنب مع فريق من هيئة الإذاعة البريطانية (BBC). لم نواجه رقابة مشددة، ولم تُقيد حركتنا بشكل يعيق التغطية. بل إن القائد الإسرائيلي آنذاك، الجنرال أبراهام أدان، توقف ليطلعنا على آخر التطورات، ورافقنا في جولة فوق جسر عائم في سيارة صفراء من شركة “هيرتز” – لم تكن الخيار الأمثل على أرض المعركة، خاصة بعدما اخترقها الشظايا وأُصيب أحد إطاراتها، لكن حتى في هذه الظروف، تلقينا المساعدة من الجنود الإسرائيليين لإصلاح العطب.
نعم، كانت هناك رقابة – لكنها اقتصرت على الجوانب المتعلقة بالأمن العملياتي، دون أن تمس جوهر الحقيقة أو تُفرغ التغطية من مضمونها. هذه الشفافية خدمت الطرفين؛ الصحفيين من جهة، وجيش الدفاع الإسرائيلي من جهة أخرى، حيث مكّنته من عرض صور تُعزز روايته وتُظهر إنجازاته العسكرية، وتُثبت التزامه بقواعد الحرب والاتفاقيات الدولية.
حرية نسبية… ومساحة للخطأ
لم تكن التغطية دومًا سهلة. ففي مناسبة أخرى، انطلقت فجراً لتغطية أحداث قرب غزة، لكن أُعيد جميع الصحفيين بأوامر من القيادة الجنوبية. ومع ذلك، كانت هذه الاستثناءات لا تُقارن بسياسة “الوصول المفتوح” نسبيًا التي انتهجها الجيش، والتي كانت قائمة على مبدأ المنفعة المتبادلة.
في بعض الأحيان، كنا نُقاد في حافلات مخصصة للصحافة – وهو وضع غير مرضٍ – لكن غالبًا ما كنا نحظى بمرافقة ضباط ناطقين بالإنجليزية لتسهيل العمل الصحفي. أتذكر أن أحد هؤلاء كان الممثل الشهير “توبول”، بطل مسرحية “عازف الكمان على السطح”، والذي كان يتمتع بشعبية كفلت له فتح الحواجز أمامنا أينما ذهب.
حتى قائد الأوركسترا الشهير زوبين ميهتا طلب أن يُرافقنا ذات مرة في طريقنا إلى الجولان، لكنني رفضت – بحكم عدم امتلاكه تصريحًا صحفيًا – وهو قرار ندمت عليه لاحقًا. كنا نُسمح بتصوير كل شيء تقريبًا، والتحدث مع جنود من مختلف الرتب، وحتى ارتكاب الأخطاء الصحفية دون أن تُقصى من الميدان.

الرقابة لم تكن مطلقة… والجرائم لم تكن مخفية
في عام 1968، بعد حرب الأيام الستة، أتيحت لي فرصة لقاء رئيس الأركان الجنرال حاييم بار-ليف، الذي كان آنذاك مشغولاً ببناء خطه الدفاعي. وفي طريقنا إلى القدس، مررنا بقرية “عمواس” ذات الأهمية التوراتية، والتي كانت قد تحولت إلى هدف للهدم الإسرائيلي، حجرًا بعد حجر. لم يُسمح لنا بتصوير ذلك، ولو كنتُ قد فعلت، لكنتُ مضطرًا لمغادرة البلاد وعدم العودة.
في غزة كذلك، بعد حرب 1967، وثّقنا عمليات الانتقام اليومية ضد الفلسطينيين، وتدمير المنازل في قلقيلية، وزرع الألغام حول الكنائس في غور الأردن. ومع ذلك، مرت معظم هذه التغطيات عبر الرقابة العسكرية دون منع.
اليوم: إعلام من على بعد… ونزيف في المصداقية
انتقل سريعًا إلى اليوم، حيث تغطية الحرب في غزة – أو بالأحرى غيابها. القنوات الإخبارية تبدأ تقاريرها بعبارة مألوفة: “لا يُسمح للصحافة الأجنبية بدخول غزة”. ثم تُبث مشاهد القصف والمجازر، مصورة بعدسات صحفيين محليين شجعان، أو مدنيين على وسائل التواصل، فيما يُعلّق المراسلون من القدس أو لندن أو من أماكن تطل على غزة يُطلق عليها “تلة العار”.
وفي ظل منع الصحافة من الدخول، لا يبقى أمام وكالات الأنباء سوى الاعتماد على بيانات وزارة الصحة في غزة – رغم التنويه المتكرر بأنها تابعة لحماس. وهذا ما يفتح الباب أمام الإشاعات والمعلومات المضللة، ويُضعف قدرة الصحفيين على تقديم رواية موثوقة قائمة على مشاهداتهم المباشرة.
زميلي السابق في الـBBC، جيريمي بوين، قال مؤخرًا: “إسرائيل لا تسمح لنا بالدخول لأن هناك ما لا تريدنا أن نراه”. وأنا أميل إلى الاتفاق معه.
إسرائيل تخسر معركة الصورة
الصحفيون البريطانيون المخضرمون مثل بوين، وفيرغال كين، يواجهون معضلة مستمرة، خاصة حين تُطلق عليهم اتهامات لا أساس لها من شخصيات كالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. ومع ذلك، يُبدي الصحفيون التزامًا بمهنة نقل الحقيقة. ورغم تواجدهم قرب الجبهة، فإنهم يفتقرون إلى التجربة الميدانية المباشرة التي تمنحهم القدرة على التحليل الحقيقي.
في السبعينيات، كنا نُرسل الأفلام المصورة من تحت النخيل قرب نقطة البث بالأقمار الصناعية. أما في حرب 1967، فكانت الأشرطة تُشحن في أكياس بصل – زرقاء للـBBC وحمراء لـNBC – إلى الرقيب العسكري، الذي كان يختمها بالشمع دون مشاهدة ما تحتويه فعليًا.
المفارقة المؤلمة أن الجمهور، في تلك الحروب القديمة، كان يحصل على صورة أكثر دقة لما يحدث على الأرض مما يحصل عليه اليوم في ظل “ضباب غزة الإعلامي”.
دعوة إلى إسرائيل… قبل أن تفقد ما تبقى من مصداقية
أدعو الجيش الإسرائيلي والجهات المسؤولة أن تعيد النظر في سياسة الحجب، وأن تسمح للصحافة الأجنبية بالدخول – ولو جزئيًا – إلى غزة. فالسماح بالنقل المستقل لن يُضعف موقف إسرائيل كما تعتقد، بل قد يُجبر قواتها على الالتزام بمعايير أفضل، كما حدث في 1973.
الوقت قد حان لاستعادة قدر ولو ضئيل من الثقة بين إسرائيل والصحافة الدولية. لأن منع التغطية لا يحمي الحقيقة، بل يُطمسها – ولأن الخاسر في النهاية، هو الجميع. وإسرائيل أولهم.