الكبح المالي يعود بقوة: الحكومات تستعيد السيطرة على حركة رأس المال
من الانفتاح إلى الضبط: تغيّر جذري في قواعد الاقتصاد العالمي

بعد عقود من الترويج لحرية حركة رؤوس الأموال، يشهد الاقتصاد العالمي موجة عودة متصاعدة لسياسات “الكبح المالي” أو ما يُعرف بـ Financial Repression، حيث تستعيد الحكومات تدريجيًا سيطرتها على تدفقات الأموال لخدمة أهدافها الاستراتيجية.
بينما ركزت الأسواق سابقًا على الحروب التجارية، يتضح اليوم أن التهديد الأكبر يكمن في تحولات أعمق في البنية المالية العالمية.
ما هو الكبح المالي؟ ولماذا يعود الآن؟
الكبح المالي هو مصطلح اقتصادي يُشير إلى مجموعة من السياسات الحكومية التي تهدف إلى توجيه رؤوس الأموال نحو أولويات معينة، كتمويل العجز، أو دعم القطاعات الاستراتيجية.
تشمل الأدوات المستخدمة: تقييد حركة الأموال عبر الحدود، خفض أسعار الفائدة الحقيقية، منح إعفاءات ضريبية للاستثمار المحلي، وتوسيع الرقابة على المؤسسات المالية.
عودة هذه السياسات ليست مجرد خيار أيديولوجي، بل نتيجة مباشرة لتحديات العصر: التوسع في الإنفاق العسكري، التحول الرقمي والبيئي، وتضخم مستويات الدين العام في العالم.
من الليبرالية المالية إلى نزعة حمائية
الولايات المتحدة التي قادت موجة تحرير الأسواق في التسعينات، أصبحت اليوم في طليعة من يعيدون ضبط قواعد اللعبة.
مقترحات مثل “اتفاق مارالاغو” تعبّر عن تحوّل عميق في الرؤية الأميركية، نحو تثبيت قيمة الدولار وتشجيع الاستثمار الداخلي، حتى لو على حساب حرية السوق أو العلاقات مع الحلفاء، هذا التوجه يُجسّد صعود “القومية الاقتصادية” على حساب العولمة المالية.
الصين: الكبح المالي كجزء من النموذج
بعكس الغرب، لم تتخلَّ الصين عن سياسات الكبح المالي في أي وقت. فاليوان غير قابل للتحويل الكامل، وأسعار الفائدة تتحكم فيها الدولة، والمصارف مملوكة أو تابعة للسلطة المركزية.
تُستخدم هذه الآليات لتوجيه الاستثمار نحو الصناعات الاستراتيجية، رغم المخاطر الناتجة عنها مثل فقاعة الإسكان أو سوء تخصيص الموارد.
مع احتدام المواجهة مع واشنطن، تعمل بكين على بناء نظام مدفوعات بديل لنظام الدولار، في خطوة تعزز استقلالها المالي.
أوروبا تتخلى عن المثالية
حتى الاتحاد الأوروبي، الذي طالما دافع عن حرية حركة رأس المال، بات يعيد النظر في مواقفه.
تقارير سياسية بارزة حذرت من استمرار هروب الأموال إلى الخارج، في وقت تحتاج فيه اقتصادات القارة لتمويل مشاريع التحول الأخضر والرقمنة. بات مقبولًا الآن أن تطرح بروكسل سياسات تدفع نحو “الاحتفاظ بالمال داخل الاتحاد”، ولو أدى ذلك لتعديل بعض مبادئ السوق الموحدة.
تراجع العولمة المالية: المؤشر الصامت
منذ الأزمة المالية عام 2008، تراجعت حركة رؤوس الأموال العابرة للحدود من نحو 50% من الناتج العالمي إلى أقل من 30% حاليًا.
هذا التراجع لم يكن نتيجة قرارات مباشرة، بل بفعل تدهور ثقة المستثمرين وتنامي المخاطر الجيوسياسية.
النتيجة: عالم يتجه تلقائيًا نحو الانكفاء المالي، حتى دون إعلانات سياسية رسمية.
الصراع القادم: رأس المال بدل النفط
إذا كانت الحروب السابقة دارت حول التجارة أو الطاقة، فإن الصراع القادم سيدور حول التحكم في رأس المال.
التحول نحو الطاقة النظيفة، والتنافس التكنولوجي، والثورة الصناعية الرابعة، كلها تفرض سباقًا عالميًا محمومًا لاجتذاب الاستثمارات، والدول التي تفشل في تعديل بنيتها المالية قد تجد نفسها خارج معادلة النفوذ والابتكار.
تهديد أم فرصة؟
رغم ما تحمله سياسات الكبح المالي من فرص لتوجيه الموارد بشكل مخطط، إلا أنها تحمل في طياتها أيضًا مخاطر كبيرة في حال غابت الشفافية أو تم استخدامها لأغراض ضيقة. فقد تتحول إلى أداة للسيطرة السياسية، ما يؤدي إلى بيئات خانقة وفساد وسوء توزيع.
الرهان الأكبر الآن هو على قدرة الحكومات على تحقيق توازن بين التنظيم والكفاءة، بين الرقابة والنمو.
عودة الدولة إلى قلب الاقتصاد
ما يشهده العالم اليوم ليس مجرد تعديل في السياسات النقدية، بل إعادة تموضع شاملة لدور الدولة في الاقتصاد العالمي.
بينما قد يرى البعض في الكبح المالي تهديدًا للسوق الحرة، يرى آخرون فيه ضرورة مرحلية لحماية الأمن القومي وتحقيق التحولات الاقتصادية الكبرى.
في النهاية، النجاح أو الفشل سيتوقف على سؤال جوهري: هل تتحكم الحكومات في رأس المال لخدمة الجميع، أم لخدمة القلّة؟