أزمة داخلية تهز الحزب الاشتراكي الألماني: انقسام بين الماضي الروسي والحاضر الأوروبي
ازمه داخليه في ألمانيا

وسط مشهد أمني أوروبي يزداد اضطرابًا، تواجه ألمانيا واحدة من أخطر أزماتها السياسية منذ عقود. فالحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)، الشريك الأساسي في الائتلاف الحاكم، يجد نفسه ممزقًا بين إرثه التاريخي المرتبط بسياسة التقارب مع روسيا، وبين التحولات الجيوسياسية التي تفرض عليه واقعًا جديدًا يتطلب مواقف أكثر حزمًا. الانقسام داخل الحزب لم يعد مجرد جدل فكري حول السياسة الخارجية، بل بات تهديدًا مباشرًا لوحدة الحكومة، خاصة مع عودة أصوات داعية إلى استئناف الحوار مع الكرملين، في وقت يعتبره كثيرون أشبه بالانتحار السياسي والدبلوماسي.
أزمة داخلية تشتعل بسبب “بقايا الولاء” لموسكو
بدأت ملامح الأزمة تظهر بوضوح بعد الانتخابات الفيدرالية في فبراير 2025، والتي شهد فيها الحزب الاشتراكي الديمقراطي نتائج كارثية أجبرت المستشار أولاف شولتز على التنحي. ورغم دخول الحزب في ائتلاف حاكم مع الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، إلا أن الانقسامات الداخلية بشأن الموقف من روسيا سرعان ما طفت إلى السطح. فقد أُقيل النائب البارز رالف شتيغنر من لجنة الرقابة الاستخباراتية البرلمانية، بعد تقارير عن مشاركته في اجتماع سري مع شخصيات مرتبطة بالكرملين في باكو، وهو ما اعتُبر تجاوزًا خطيرًا في ظل الوضع الأمني المتدهور في أوروبا.
“مانيفستو” يحيي أشباح الماضي الاشتراكي
وقبيل قمة حلف الناتو ومؤتمر الحزب، صدر بيان وقّعه أكثر من مئة مسؤول وحزبي بارز داخل الحزب الاشتراكي، يدعو إلى العودة لمسار الحوار مع روسيا، ورفض ما وصفه بـ”التصعيد العسكري الأوروبي”. رغم أن خمسة فقط من أعضاء البوندستاغ الحاليين وقّعوا البيان، إلا أن رمزية الأسماء – مثل شتيغنر وروفل موتسنيش ووزير المالية الأسبق هانز آيشل – كشفت عن اتساع تيار يرفض القطيعة مع موسكو. هذا التيار يستند إلى إرث “أوستبوليتك” الذي دشنه المستشار ويلي برانت في السبعينيات، لكنه بات اليوم في نظر كثيرين مفصولًا عن الواقع الاستراتيجي الجديد.
إرث “أوستبوليتك” بين التاريخ والتكلّس العقائدي
تاريخيًا، مثّلت سياسة “التغيير عبر التقارب” التي اعتمدها برانت نقطة تحوّل في السياسة الألمانية، وساهمت في خفض التوتر خلال الحرب الباردة. لكن هذا النهج، مع مرور الزمن، تحوّل من استراتيجية واقعية إلى موقف أخلاقي جامد. قاد هذا الجمود إلى كوارث استراتيجية، أبرزها في عهد غيرهارد شرودر، الذي عمّق اعتماد ألمانيا على الطاقة الروسية وامتدح بوتين علنًا، ثم شغل مناصب في شركات طاقة روسية بعد خروجه من الحكم، في ما اعتُبر لاحقًا خيانة استراتيجية للمصالح الوطنية.
خطاب اليسار مقابل واقع ما بعد الغزو الروسي
الخطاب “السلمي” داخل الحزب الاشتراكي لم يتوقف حتى بعد الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا عام 2022. فرغم إعلان المستشار شولتز حينها عن “تحوّل زمني” في السياسة الدفاعية، وتخصيص 100 مليار يورو لتحديث الجيش، ظلت بعض القيادات تصف مناورات الناتو بأنها “قرقعة سيوف”. وبقيت قطاعات واسعة داخل الحزب أسيرة لمفاهيم قديمة، تتحدث عن “السلام المتبادل” بينما لا تُشير بأي كلمة إلى العدوان الروسي، سواء في أوكرانيا أو في أنشطة التلاعب والطاقة والهجمات السيبرانية على أوروبا.
تحوّل الائتلاف نحو التعزيز العسكري… وغضب في القواعد
تحت قيادة المستشار الجديد فريدريش ميرتس (CDU)، تبنّت الحكومة نهجًا دفاعيًا غير مسبوق، حيث تم تعديل القانون الأساسي للسماح بتجاوز “كبح الديون”، واعتماد خطة دفاعية بقيمة 650 مليار يورو تمتد لخمس سنوات، لترتفع نسبة الإنفاق الدفاعي إلى 3.5٪ من الناتج المحلي بحلول 2029، وربما إلى 5٪ في الثلاثينيات. هذا التحول أثار قلق الجناح اليساري داخل الحزب الاشتراكي، الذي يخشى من تقليص الإنفاق الاجتماعي، وهو ما يهدد القاعدة الانتخابية للحزب ويغذّي التمرد الداخلي ضد القيادة الحالية.
القيادة المتصدعة والذكريات المريرة للتحلل
تشير الأزمة الحالية إلى تكرار سيناريو الثمانينيات، حين أدّت خلافات الأمن والدفاع إلى تفكك حكومة هيلموت شميت وسحب الثقة منها. آنذاك، كان الانقسام حول نشر صواريخ نووية أمريكية في أوروبا سببًا جوهريًا في انهيار التحالف. اليوم، يُخشى أن يؤدي الانقسام حول روسيا والدفاع إلى انهيار الائتلاف الحالي أيضًا. خاصة أن الحزب الاشتراكي معروف بدورته السريعة في تغيير القيادة – فقد تناوب عليه 11 رئيسًا منذ 2004 – والنتائج الهزيلة التي حصل عليها لارس كلينغبايل في إعادة انتخابه مؤخرًا تعكس هشاشة موقعه، وسط تساؤلات من المستشار ميرتس نفسه حول مدى قدرته على السيطرة على حزبه.
خاتمة: قنبلة سياسية موقوتة في قلب برلين
رغم أن استطلاعات فبراير 2025 تشير إلى أن 67٪ من الألمان يؤيدون دعم أوكرانيا بالسلاح، فإن أي تغير ميداني قد يعيد إحياء شكوك الشارع ويعطي زخمًا للتيار “التصالحي” داخل الحزب الاشتراكي. وإذا ما استمرت القيادة في تجاهل هذا الانقسام البنيوي، فقد يتحول من خلاف داخلي إلى أزمة وطنية، تهدد مستقبل الحكومة، وتُضعف موقع ألمانيا في المعادلة الأمنية الأوروبية. فالمشكلة لم تعد فقط “كيف تتعامل ألمانيا مع روسيا؟”، بل “هل تستطيع الحكومة الألمانية البقاء متماسكة وسط هذا الانقسام؟”.
اقرأ أيضا
“الجارديان”: بوتين أبلغ ترامب أن موسكو متمسكة بأهدافها في أوكرانيا ولا تقبل الحلول الجزئية