
بعد نحو عامين من أكثر فصول الصراع دموية في الشرق الأوسط، تجد إسرائيل نفسها في مفارقة صارخة: لقد نجحت، عسكريًا، في توجيه ضربات قاصمة لأعدائها التقليديين من حماس في غزة إلى حزب الله في لبنان، بل ووصلت عملياتها إلى قلب طهران، مدعومة من الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب. ورغم ذلك، فإن هذا النصر لم يُترجم إلى قبول دولي أو استقرار استراتيجي شامل، بل دفع إسرائيل نحو عزلة غير مسبوقة بين الديمقراطيات الغربية، وسط اتهامات بارتكاب جرائم حرب وموجة احتجاجات عارمة مناهضة لها في العواصم العالمية.
ترسانة الانتصار العسكري… ولكن:
منذ هجمات حماس في 7 أكتوبر 2023، والتي أودت بحياة 1200 شخص وأسر 250 آخرين، شنت إسرائيل حربًا شاملة في غزة ووسعت عملياتها إلى لبنان وإيران. النتائج العسكرية كانت ضخمة: تحييد معظم قدرات حزب الله، تدمير بنية حماس التحتية، وتقليص خطر إيران النووي. في الداخل الإسرائيلي، باتت مناطق حدودية طالما عاشت في الظل الأمني تشعر الآن بمستوى أمان غير مسبوق.
خسائر فادحة في غزة وتآكل في الصورة الدولية:
لكن هذا النصر جاء بكلفة بشرية مروعة. في غزة، قُتل عشرات الآلاف وتُرك أكثر من مليون إنسان دون مأوى. الصور القادمة من القطاع عمّقت الشعور العالمي بأن إسرائيل تجاوزت حدود الدفاع المشروع، وأججت مشاعر الغضب حتى بين حلفائها التقليديين في أوروبا وأمريكا الشمالية.
أزمة رهائن تقسم المجتمع الإسرائيلي:
رغم مرور أكثر من 630 يومًا على الحرب، لا يزال نحو 20 رهينة إسرائيليًا محتجزين في أنفاق غزة. ومع تراجع أولوية ملف الرهائن لصالح الأهداف العسكرية، يشعر العديد من الإسرائيليين بالغدر من قبل حكومتهم. زوجات وأبناء الرهائن باتوا من أبرز المنتقدين للسياسة الرسمية.
شرخ في العلاقة مع الولايات المتحدة:
الحرب أثرت على العلاقة التاريخية مع الولايات المتحدة، رغم تحالف نتنياهو الوثيق مع ترامب. فالدعم الأمريكي لم يعد محل إجماع حزبي، بل بات موضوعًا للخلاف العلني في الكونغرس، ووقودًا لحملات جامعية مناهضة لإسرائيل وانتشار حوادث معاداة السامية، وكذلك الإسلاموفوبيا، في الداخل الأمريكي.
تصاعد الحراك الشعبي العالمي ضد إسرائيل:
موجات الاحتجاج العالمية تضاعفت. ففي بريطانيا وحدها، ارتفع عدد أعضاء حملة التضامن مع فلسطين من 65 ألفًا قبل الحرب إلى أكثر من 300 ألف. المقاطعة وسحب الاستثمارات (BDS) استعادت زخمًا كبيرًا، وتجاوبت معها بعض الشركات الكبرى مثل سلسلة Co-op البريطانية.
تداعيات دبلوماسية في الخليج وأوروبا:
بعد أن كانت خطوات التطبيع بين إسرائيل والسعودية على وشك التحقق، أصبحت اليوم معلّقة إلى أجل غير مسمى. ثلاث دول أوروبية (إسبانيا، أيرلندا، النرويج) اعترفت رسميًا بفلسطين. فرنسا تُهدد باتخاذ الخطوة ذاتها، ما أثار غضب الحكومة الإسرائيلية واتهامات بـ”العداء للسامية”.
الانقسام الداخلي وتآكل الثقة الشعبية:
داخل إسرائيل، يعاني المجتمع من انقسام حاد. فاستطلاعات الرأي تشير إلى أن ثلثي الإسرائيليين يريدون إنهاء الحرب مقابل صفقة تُعيد الرهائن. لكن شعبية نتنياهو ارتفعت بعد ضرب إيران، مما يعكس التباين بين الشعور العام بالخطر والرغبة في الحسم العسكري.
العداء المتزايد في الجامعات والمجتمعات الغربية:
في الجامعات الأمريكية والأوروبية، تحول دعم فلسطين إلى رمز شبابي وثقافي. أحداث مثل طرد طلاب يهود، وحظر فرق موسيقية مؤيدة للفلسطينيين، وحتى وقوع اعتداءات دموية ذات دوافع سياسية، تؤشر على واقع متفجر من الاستقطاب والعنف السياسي.
الحكومة الإسرائيلية تدافع… ولكن الرسائل لا تصل:
رغم كل ذلك، تصر الحكومة الإسرائيلية على أنها تحارب تنظيمات إرهابية، وتبذل جهودًا لتقليل الضحايا المدنيين. لكنها تواجه موجة إدانات غير مسبوقة في المحافل الدولية، وتراجعًا حادًا في صورتها العالمية، حتى داخل الدول الحليفة.
نهاية غير مكتملة لمعركة مفتوحة:
ربما تكون إسرائيل قد حققت مكاسب عسكرية ملموسة، لكنها دفعت ثمنًا سياسيًا وإنسانيًا باهظًا. ومع تنامي خطاب العزلة والتمرد في الداخل والخارج، تواجه القيادة الإسرائيلية سؤالًا وجوديًا: هل كانت تكلفة النصر أكبر من قيمته؟