لوحاتٌ من قيء الذباب: كيف حوّل فنانٌ المأساة والطبيعة إلى تجربة فنية مدهشة؟
جون كنَث يستخدم الذباب كفرشاة، ويحوّل الحريق والمأساة إلى أعمال فنية مضيئة في نيويورك ولوس أنجلوس

في مرسمه المليء بالذباب في دنفر، استُدعيَت الشرطة للاشتباه بوجود جثة. لكن ما وجدوه لم يكن سوى تجربة فنية فريدة: لوحات يرسمها الذباب عبر عملية الهضم الخارجي. هكذا بنى الفنان الأميركي جون كنَث مسيرته الفنية الممتدة لأكثر من عقد، مستخدمًا الذباب كفرشاة، ومأساة احتراق منزله كمادة إلهام.
الذباب كأداة فنية: من الحشرات إلى النقاط المتوهجة
جون كنَث، الفنان المقيم في كاليفورنيا، لا يستخدم الفرشاة ولا الألوان بالطريقة التقليدية. بل يخلط الأكريليك مع الماء والسكر، ويقدمه كطعام لعشرات الآلاف من الذباب. وعبر عملية الهضم الخارجي – وهي عملية يتقيأ فيها الذباب مرارًا أثناء الأكل – تنتج الحشرات بقعًا لونية تتناثر على القماش، مكوّنة لوحات وصفها النقّاد بأنها “متلألئة ومضيئة”.
يقول كنَث: “الذباب يتقيأ، ثم يمتص، ثم يتقيأ مجددًا، وهكذا يترك وراءه بصماته”. هذه العملية العشوائية والمنفلتة من تحكم الفنان تعيد تعريف فكرة الإبداع، وتُعيد طرح سؤال: من يُنتج الفن فعلًا، الفنان أم الطبيعة؟
اقرا أيضاً:
حادث مروّع في كنتاكي: إطلاق نار مزدوج يودي بحياة شخصين ويصيب ثلاثة بينهم شرطي
من شك الشرطة إلى انبهار النقّاد
حين فُتح معرض كنَث الأخير في دنفر، لاحظ الجيران وجود كميات كبيرة من الذباب، فأبلغوا الشرطة. لكن بعد لحظات من دخولهم، تبدد الشك تمامًا. “شرحت لهم أنني أعمل مع الذباب على إنتاج لوحات فنية، وبعضه يهرب أحيانًا”، قال كنَث مبتسمًا، “فدعوا الموظفين الذين أبلغوا عني، وجعلوهم يعتذرون”.
هذه الواقعة لا تعكس فقط غرابة مشروع كنَث، بل أيضًا جاذبيته الفريدة التي تأسر المتلقي حتى قبل أن يفهم الفكرة.
بعد الحريق: حين تُصبح المأساة مادة فنية
في يناير الماضي، فقد كنَث منزله بالكامل خلال حريق “إيتون” الذي دمّر حيّه في لوس أنجلوس. احترق كل شيء: منزله، أرشيفه الفني، ومقتنيات 25 عامًا من العمل. لكنه عاد إلى الذباب، ليس فقط لأنه مصدر فني، بل لأنه “ساعدني في بناء بيتي السابق، والآن يساعدني في البدء من جديد”.
معرضه الحالي في نيويورك، بعنوان “الحديقة الحارّة”، يمثّل هذا التحوّل العاطفي. استخدم الألوان الساخنة (الأحمر، البرتقالي، الأصفر) لمحاكاة مشاهد الحريق والدخان، وخلط البقع التي تركها الذباب بتركيبات مستوحاة من لوحات مونيه، ليحاكي جمالًا ينبثق من الكارثة.
الطبيعة كأستاذ ومدرسة
نشأ كنَث في ضواحي مينيسوتا، محاطًا بالحيوانات والضفادع والثعابين. هذه العلاقة الحميمة مع الطبيعة انتقلت إلى فنه لاحقًا. لم يكتفِ بالذباب، بل سبق أن استخدم سم الأفعى في الطلاء، وغطى عظام قضيب الذئب بالذهب، وطلّى قنافذ البحر بورق الذهب.
هذه العلاقة الغريبة بين الجمال والخوف، الطبيعة والغرابة، تُشكّل جوهر فلسفته الفنية.
الذباب والسلاح: من الحرب إلى التجريب
بدأت فكرة العمل مع الذباب في 2003، حين قرأ أن هذه الحشرة تسببت في معاناة بشرية أكثر من كل الحروب. أراد كنَث أن يصنع عملًا فنيًا احتجاجيًا ضد الحرب في العراق، عبر ربط طائرات ورقية بالذباب. لكنه لاحظ شيئًا مختلفًا: البقع الصغيرة الناتجة عن الذباب بدت كأنها لوحات نقطية.
وفي 2005، جرّب إطعام الذباب طعام “ماكدونالدز” و”تاكو بيل”، لكن النتائج كانت لوحات بنية باهتة. لم تكن جميلة، لكنها فتحت بابًا تجريبيًا جديدًا.
الانطلاقة الكبرى جاءت في 2013، حين كلفه متحف الفن المعاصر في لوس أنجلوس بإنتاج عمل كبير باستخدام الذباب. الفيديو الناتج انتشر كالنار، وأصبح لحظة مفصلية في مسيرته.
الحريق كذاكرة: “هذا بومبي الخاصة بنا”
ضمن معرض “الحديقة الحارّة”، يعرض كنَث تركيبًا فنيًا بعنوان “حديقة المنحوتات”، يضم بقايا أعمال احترقت، ومساهمات من فنانين آخرين فقدوا منازلهم. حتى متحف “غيتي” اشترى عملين من هذا القسم، من بينها قطعة بعنوان “هذه بومبي الخاصة بنا” – صحيفة نيويورك تايمز مغطاة ببقع الذباب الحمراء، في إشارة إلى الحريق ككارثة ثقافية وفنية.ككارثة ثقافية وفنية.
حزنٌ هادئ وإصرار مشعّ
رغم نجاحه، لا يُخفي كنَث حزنه: “أرشيفي كله احترق. أول 25 سنة من مسيرتي انتهت. كان عملي طريقتي في التواصل مع العالم. لكن العالم عاد وتواصل معي بطريقة قاسية.”
لكنه، وككل فنان حقيقي، ينهض من الرماد. مرسمه الجديد في باسادينا مليء بقطع غريبة: خطاطيف ضخمة، أفاعٍ محنطة، قنافذ بحر مطلية بالذهب، ومئات الذبابات المحنطة. يبتسم ويقول: “أنا الآن في الـ46 من عمري. آمل أن أملك 25 سنة أخرى لتعويض ما خسرته.”
اقرا أيضاً:
الدنمارك بقيادة يسارية تتبنى سياسات هجرة يمينية تثير جدلًا واسعًا في أوروبا