
في الوقت الذي تتصاعد فيه التوترات الأمنية في شرق آسيا، لا تزال الاستراتيجية الأمريكية مبنية على فرضية مثالية تتحدث عن “الجهوزية الكاملة لخوض حربين في آنٍ واحد” — واحدة ضد الصين وأخرى ضد كوريا الشمالية. هذا التوجه التخطيطي ليس فقط غير واقعي، بل يحمل في طياته مخاطر استراتيجية قد تُفضي إلى الفشل في كلا الجبهتين. تقرير “تهديد نووي مزدوج متصاعد في شرق آسيا”، الصادر مؤخرًا عن المجلس الأطلسي، يسلط الضوء على هذا التحدي عبر محاكاة حربية بعنوان Guardian Tiger I ، داعيًا إلى مراجعة جذرية في هيكل القيادة الأمريكية وتنسيق التحالفات الثلاثية. إلا أن كثيرًا من هذه المقترحات مبني على افتراضات مبالغ فيها حول القدرة الصناعية، والتكامل السياسي بين الحلفاء، وقابلية تنفيذ عمليات “موحدة” على جبهتين متباعدتين. لقد آن الأوان للاعتراف بأن خوض حربين متزامنتين في المنطقة ليس خيارًا قابلًا للتطبيق، ويجب على واشنطن أن تنتقل من منطق الاستعداد الشامل إلى منطق الأولويات والمرونة الاستراتيجية.
واقع القدرات العسكرية مقابل وهم “الجاهزية المزدوجة”
الركيزة الأساسية في التقرير تكمن في دعوته لتحديث خطة القيادة الموحدة، بحيث تتيح للولايات المتحدة تنسيق عمليات عسكرية متزامنة في شبه الجزيرة الكورية وحول مضيق تايوان. غير أن هذا الطرح يتجاهل الحقائق القاسية حول القدرة الحالية للجيش الأمريكي والصناعة الدفاعية. فمخزونات الذخائر الدقيقة مثل صواريخ JASSM وGMLRS واعتراضات باتريوت لا تكفي حتى لحرب واحدة طويلة الأمد، فكيف بحربين متزامنتين؟ في حال اندلاع نزاع مع كوريا الشمالية فقط، فإن هذه الموارد ستُستنزف بسرعة، بينما يشكل انخراط الصين تهديدًا بانهيار العمليات. بدلًا من التخطيط لحروب متزامنة، من الأجدى تبني استراتيجية ترتكز على “تصعيد تدريجي متسلسل”، تضمن فيها الولايات المتحدة سيطرة كاملة على جبهة واحدة، بينما تحافظ على ردع مستقر في الجبهة الأخرى بانتظار دعم الحلفاء أو وصول تعزيزات لاحقة. هذا يتطلب إعادة نشر موجهة لمنظومات مثل THAAD وHIMARS في كوريا الجنوبية، واستراتيجية غموض مدروسة في تايوان لإرباك حسابات بكين وإعطاء الوقت للتحرك الجماعي.

حدود التكامل بين الحلفاء: الواقع السياسي يفرض نفسه
رغم جهود السنوات الأخيرة لتعزيز التعاون الثلاثي بين الولايات المتحدة، كوريا الجنوبية، واليابان، لا تزال الفجوات واضحة على المستوى العملياتي. المحاكاة الحربية ذاتها كشفت أن سيول قد ترفض استخدام قوات أمريكية متمركزة في كوريا لدعم عمليات في تايوان، وهو ما يتماشى مع موقفها الحالي الحذر تجاه الصين. بالمثل، طوكيو قد لا ترغب بالانخراط بعمق في نزاع محتمل في شبه الجزيرة الكورية. غياب قيادة ثلاثية موحدة، وتعقيد تنسيق الدفاعات الصاروخية، وضعف مشاركة المعلومات الاستخباراتية، كلها مؤشرات تدعو إلى إعادة النظر في الرؤية التقليدية للتكامل التام. بدلًا من السعي لاندماج كامل، ينبغي اعتماد نموذج “التنسيق المعياري المرن”، من خلال تعيين ضباط ارتباط مشتركين بين قيادات USFK وUSFJ وINDOPACOM، يسهّلون اتخاذ القرار اللحظي دون الحاجة لاتفاقات سياسية حساسة. هذا النموذج أكثر واقعية ويأخذ بالحسبان التوازنات السياسية الداخلية لكل من سيول وطوكيو.
الردع النووي: الحاجة إلى أدوات غير نووية أكثر مرونة
تطرق التقرير بذكاء إلى خطر التصعيد النووي من جانب كوريا الشمالية، لكنه لم يطرح استراتيجيات ردع عملية. فخيار استخدام أسلحة نووية منخفضة القوة يصطدم بعدة معوقات، أبرزها هشاشة الطائرات الحاملة أمام الدفاعات الجوية الكورية الشمالية، والمعارضة الداخلية والدبلوماسية لتخزين رؤوس نووية على أراضي الحلفاء. هذه المعوقات تقلل من مصداقية التهديد النووي الأمريكي. بدلًا من ذلك، يجب على واشنطن أن تطور قدرات غير نووية دقيقة لتعطيل القيادة والسيطرة في بيونغ يانغ، تشمل الحرب السيبرانية، والتشويش الإلكتروني، والهجمات الفرط صوتية الموجهة. هذه الأدوات توفر ردًا موثوقًا يمكن تفعيله بسرعة في حال قيام بيونغ يانغ باستخدام نووي محدود، دون المخاطرة بتصعيد شامل. كما أنها تعزز مرونة الردع الأمريكي، وتمنح صناع القرار مساحة أوسع للمناورة السياسية والعسكرية.

أدوار تحالفية غير متناظرة: التعدد لا يعني التماثل
الاختلاف في أولويات الحلفاء يجب أن يُنظر إليه كميزة، لا كعقبة. كوريا الجنوبية ترى في التهديد الكوري الشمالي أولوية قصوى، بينما تركز اليابان على التحدي الصيني. هذا التباين مفهوم بالنظر إلى الجغرافيا والتاريخ والمصالح الوطنية. بدلاً من إجبار كل طرف على القتال في ساحة الآخر، على واشنطن أن تصمم أدوارًا غير متناظرة تتلاءم مع استعدادات الحلفاء وإرادتهم السياسية. فسيول يمكنها أن تظل مكرسة لردع الشمال، بينما تقدم طوكيو دعمًا لوجستيًا واستطلاعًا في سياق أزمة تايوان. أما أستراليا والفلبين فيمكن أن تؤديا دورًا محوريًا في تأمين الممرات البحرية الجنوبية. هذه المقاربة تسمح بتوزيع الجهد دون إنهاك الموارد أو استنزاف الدعم السياسي في الدول الحليفة.
الجبهة غير المنظورة: حرب المعلومات في قلب المعركة
من بين أهم جوانب أي مواجهة مستقبلية — والتي لم تنل حظها الكافي في التقرير — تبرز حرب المعلومات. التأثير على النخب داخل النظام الكوري الشمالي، والتحكم بسردية الأزمة داخليًا وخارجيًا، قد يغير من مسار التصعيد بأكمله. لذلك، على واشنطن أن تستثمر منذ الآن في أدوات التأثير الاستراتيجي الرقمي، تشمل البث الخارجي، والتواصل مع الشتات الكوري، وإنشاء قنوات رسائل مستهدفة لبث الشك داخل بيونغ يانغ، وتشجيع الانقسام بين صفوف النخبة الحاكمة. في لحظات الأزمات، قد تكون المعركة النفسية أكثر حسمًا من الضربات العسكرية. وعلى غرار الاستعداد في ميدان النار، يجب أيضًا الاستعداد في ميدان الإدراك والسيطرة على السردية.

الواقعية الاستراتيجية طريق النجاة من الانهيار
إن التمرينات الحربية مثل Guardian Tiger تقدم رؤى ثمينة، لكن فائدتها تبقى مشروطة بمدى تطابقها مع الواقع. الاستمرار في التخطيط لحربين متزامنتين في شرق آسيا، استنادًا إلى أفضل السيناريوهات الممكنة، هو وصفة مؤكدة للانهيار الاستراتيجي. المطلوب هو استراتيجية مبنية على القيود لا الأمنيات، وعلى توزيع غير متناظر للأدوار، وتنسيق مرن، وخيارات ردع غير نووية فعالة. هكذا فقط يمكن بناء قدرة ردع تصمد أمام اختبار الأزمات — وتمنع الانزلاق نحو كارثة مزدوجة في منطقة لا تتحمل المزيد من الفوضى.
إقرأ ايضًا:
اليابان تكشف عن صواريخ “تايب 12” بعيدة المدى خلال تدريبات “فوجي” النارية