صعود مصطلح الإبادة الصحية: هجوم ممنهج علي الحياد الطبي
الإبادة الصحية: استهداف ممنهج للمنظومة الطبية في مناطق النزاع

في زمن تزداد فيه الحروب تعقيدًا، لم تعد المستشفيات والمرافق الصحية بمنأى عن نيران النزاعات، بل باتت في مرمى الاستهداف المباشر. في تعليق غير مسبوق نُشر في المجلة الطبية البريطانية (BMJ)، دعا باحثون من الجامعة الأميركية في بيروت إلى تسمية هذا النمط من الانتهاكات المتزايدة بـ”healthocide” أو “الإبادة الصحية”. هذه الدعوة ليست مجرد مصطلح جديد، بل تعبير عن مأساة متكررة يتعرض فيها الأطباء والممرضون والمرضى لأبشع صنوف العنف والإقصاء، في انتهاك صريح لمبدأ “الحياد الطبي” المنصوص عليه في القانون الدولي الإنساني. ما يحدث اليوم لم يعد مجرد أضرار جانبية للحرب، بل سياسة متعمدة لهدم ما تبقى من بُنى الرعاية الإنسانية في ساحات القتال.
غزة: العنوان الأبرز في مأساة الصحة المستهدفة
من بين أكثر الأمثلة فجاجة ودموية على الإبادة الصحية، تبرز غزة كمسرح مفتوح لانتهاكات صارخة تستهدف الجسم الطبي. منذ بدء الهجوم الإسرائيلي على القطاع، قُتل أكثر من 986 من العاملين الصحيين، وفق إحصاءات أوردتها منظمات حقوقية متخصصة. كما تم توثيق اعتقال 28 طبيبًا فلسطينيًا داخل السجون الإسرائيلية دون توجيه تهم، من بينهم كبار الاستشاريين في تخصصات دقيقة. هذه الوقائع تتجاوز الأرقام، فهي تعكس سياسة متكاملة لضرب المنظومة الصحية من جذورها: حرمان الجرحى من الإسعاف، قصف المستشفيات، وسحب الأطباء من غرف العمليات بالقوة. في ظل هذه الأوضاع، تتحول المنشآت الطبية من ملاذ آمن إلى مسرح دموي للعنف والقصف والاعتقال.
قانون بلا مساءلة: الفجوة القاتلة في القانون الدولي
رغم وضوح نصوص اتفاقيات جنيف حول حماية العاملين الصحيين، إلا أن التنفيذ الفعلي لها يبدو هشًا ومتروكًا للتأويل السياسي. كما أشار الخبير القانوني مارتن فان دير هايدن في صحيفة “الغارديان”، فإن النصوص تتيح ثغرات خطيرة مثل تبرير قصف المستشفيات إذا ما اعتُبرت “ذات أثر على العدو”. هذا الغموض القانوني يفتح الباب أمام الإفلات من العقاب، ويجعل من الالتزامات الأخلاقية شيئًا ثانويًا في معادلة القوة. وفي الوقت الذي تتراكم فيه الأدلة على الجرائم المرتكبة ضد المستشفيات في غزة ولبنان وسوريا وأوكرانيا، لا تزال المنظومة الدولية عاجزة عن فرض أي نوع من المحاسبة الجادة أو إصدار عقوبات رادعة.
شهادات مروّعة من قلب الجحيم الطبي
الانتهاكات لا تتوقف عند القصف والاعتقال، بل تمتد إلى ممارسات تعذيب مروعة وثقتها شهادات أطباء من غزة تم احتجازهم داخل السجون الإسرائيلية. هؤلاء الأطباء تحدثوا عن تعرّضهم للضرب المتواصل، والحرمان من النوم عبر تشغيل موسيقى صاخبة، والإجبار على الوقوف لساعات في أوضاع مرهقة، إلى جانب حرمانهم من الطعام والماء والاستحمام. هذه الشهادات، التي وثقتها صحيفة “الغارديان” ضمن تحقيق خاص، تكشف عن محاولة متعمدة لكسر الروح المهنية والإنسانية للأطباء وتحويلهم إلى أهداف حرب، في تناقض تام مع كل ما تمثله رسالة الطب من أخلاق وإنقاذ للحياة.
أرقام مرعبة توثق الجريمة المتكررة
بحسب ائتلاف حماية الصحة في النزاعات، تم تسجيل أكثر من 3623 هجومًا أو عرقلة للمرافق الصحية خلال عام 2024 فقط، وهو أعلى رقم موثق في تاريخ هذه الجرائم. لم تقتصر الانتهاكات على الشرق الأوسط، بل شملت أيضًا السودان وأوكرانيا وسوريا وحتى السلفادور. وقد تضمنت هذه الهجمات قتل أطباء، اختطاف ممرضين، إطلاق النار على مرضى في أسرّتهم، وتفجير منشآت طبية بالكامل. في بعض الحالات، كانت سيارات الإسعاف تُمنع من الوصول إلى المصابين أو تُستهدف مباشرة، مما يعكس استخدام الصحة كسلاح سياسي وعسكري، بدلًا من أن تكون مساحة إنسانية محمية.
الدعوة إلى التخلي عن الحياد: صرخة من داخل الجسد الطبي
في ظل هذه الوحشية، بدأ عدد من الأصوات الطبية بالدعوة إلى التخلي عن مفهوم “الحياد الطبي” التقليدي، باعتباره بات يُستخدم لتبرير الصمت أكثر من كونه درعًا للحماية. د. جويل أبي راشد وفريقه في BMJ حثوا الأطباء حول العالم على التنديد الصريح بهذه الجرائم، والتوثيق العلني لها، والمطالبة بالمحاسبة. الرسالة الأساسية هي أن الصمت يُغري المعتدي بالمزيد من العنف. بل إن الصمت، في مثل هذه الحالات، قد يتحول إلى مشاركة غير مباشرة في الجريمة. لذلك، فإن واجب الطبيب لا يتوقف عند غرفة العمليات، بل يمتد إلى الدفاع عن قدسية الطب كقيمة إنسانية.
المطلوب دوليًا: آلية فعالة للحماية والمحاسبة
وسط هذا السقوط الأخلاقي، تتعالى دعوات من منظمات مثل الجمعية الطبية البريطانية ومنظمة الصحة العالمية لإيجاد آليات أكثر فاعلية لحماية الصحة في النزاعات. أحد المقترحات هو تعيين مقرر خاص تابع للأمم المتحدة معني بحماية الصحة أثناء النزاعات المسلحة، يكون له صلاحية التحقيق والإبلاغ والمطالبة بعقوبات. كذلك، يجب تفعيل قوانين المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة من يثبت تورطهم في هذه الهجمات، وتوثيقها كجرائم حرب لا تسقط بالتقادم. المعركة من أجل إنقاذ الحياد الطبي هي
معركة من أجل جوهر الإنسانية نفسها