علوم وتكنولوجيا

مارك اندريسن يهاجم قانون الأمان الرقمي البريطاني ويطالب بتأنيب وزير التكنولوجيا: صراع الحريات الرقيه يبلغ داونينغ ستريت

صراع الحريات الرقمية يبلغ داونينغ ستريت: مارك أندريسن يهاجم قانون الأمان الرقمي البريطاني

 

في تصعيد غير مسبوق بين وادي السيليكون والحكومة البريطانية، توجه الملياردير الأمريكي مارك أندريسن، أحد أبرز المستثمرين في التكنولوجيا، بشكوى مباشرة إلى مقر رئاسة الوزراء البريطانية في داونينغ ستريت، منتقدًا قانون “الأمان الرقمي” البريطاني الجديد ومهاجمًا وزير التكنولوجيا بيتر كايل. بحسب ما كشفته فايننشال تايمز، تأتي هذه الخطوة ضمن موجة انتقادات دولية متزايدة للقانون الذي يُعد أحد أكثر محاولات ضبط الإنترنت طموحًا وتشددًا في الديمقراطيات الغربية. لكن في الوقت الذي يروّج فيه المسؤولون البريطانيون للقانون كأداة لحماية الأطفال من محتوى خطير، يرى كبار التقنيين مثل أندريسن، الذي يشغل أيضًا مقعدًا في مجلس إدارة “ميتا”، أن التشريع يهدد حرية التعبير ويمنح الحكومات سلطة مفرطة على الإنترنت.

جوهر الاعتراض: قانون يربك الصناعة ويخيف الحريات

يشمل قانون الأمان الرقمي البريطاني الجديد اشتراطات مشددة على المنصات الرقمية، خاصة فيما يخص المحتوى المتاح للأطفال، مثل فرض آليات تحقق من العمر تشمل استخدام بطاقات هوية، وتقديرات عمر الوجه، وحتى بيانات البطاقات الائتمانية. ورغم أن الهدف المُعلن هو تقليل تعرض الأطفال لمحتوى جنسي أو عنيف، إلا أن أندريسن وغيره من المدافعين عن حرية الإنترنت يرون أن هذه الاشتراطات ستقود إلى “رقابة مفرطة” و”انتهاك واسع للخصوصية”. كما أثار تصريح الوزير بيتر كايل، الذي قال إن معارضي القانون يقفون “في صف المتحرشين بالأطفال”، غضبًا واسعًا في أوساط شركات التكنولوجيا، ودفع أندريسن للمطالبة بتأنيب رسمي له من قبل رئيس الوزراء كير ستارمر، واعتبار تصريحه “تحريضيًا وغير مسؤول”.

منصات تحت الضغط: بين التقيّد بالقانون وتفادي الغرامات

فرض القانون غرامات تصل إلى 10% من الإيرادات العالمية للشركات المخالفة، أو 18 مليون جنيه إسترليني كحد أقصى. وقد دفعت هذه الغرامات المحتملة آلاف المنصات، مثل Google وReddit وSpotify وحتى OnlyFans، إلى اتخاذ خطوات استباقية بتقييد المحتوى على المستخدمين غير المتحقق من أعمارهم. لكن هذه الاستجابة وُصفت من بعض المسؤولين بأنها “مبالغ فيها” أو حتى “متحايلة”، إذ يُعتقد أن بعض المنصات تتعمّد تطبيق القانون بتشدد مبالغ فيه لإظهار أنه غير عملي، وبالتالي النيل من سمعته وتشويه أهدافه. وهنا تظهر المفارقة: بينما تريد الحكومة حماية الأطفال، تتهمها الشركات باستخدام القانون كـ”عصا قانونية” دون فهم واضح لتأثيراته على المستخدمين والموردين.

تزايد استخدام الـVPN يربك الحكومة

في تطور سريع، بدأ المستخدمون البريطانيون باللجوء إلى الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN) لتجاوز القيود المفروضة عبر قانون الأمان الرقمي. هذه الشبكات تتيح تحويل حركة الإنترنت إلى خوادم خارجية، متجاوزة الرقابة المحلية، مما يقوّض فاعلية القانون بالكامل. وقد بدا أن الحكومة البريطانية لم تتوقع هذا التوجه، إذ طلبت من هيئة تنظيم الاتصالات (Ofcom) تقارير مفصلة حول عدد مرّات تحميل الـVPN وكيفية استخدامها، خاصة من قبل الأطفال. رغم إعلان الوزير كايل أنه لا ينوي حظر هذه الأدوات، فإن طلبات المتابعة تشير إلى قلق عميق داخل الحكومة من أن القانون قد يفرغ من مضمونه بسبب أدوات تقنية تتوفر بسهولة لأي مستخدم يمتلك هاتفًا ذكيًا.

انتقادات متصاعدة من دعاة الخصوصية وحرية التعبير

لم تقتصر المعارضة على شركات التكنولوجيا فقط، بل امتدت إلى جماعات مدافعة عن الخصوصية مثل “جمعية الإنترنت”، التي حذرت من أن إنشاء قواعد بيانات ضخمة للتحقق من العمر سيفتح الباب أمام سرقات معلومات شخصية على نطاق واسع. كما نبهت هذه الجماعات إلى أن بعض الشركات التي تقدم حلولًا لتقدير الأعمار تعمل دون شفافية، وقد تستخدم البيانات في أغراض تجارية بحتة، مما يُعرض المستخدمين، وخصوصًا القاصرين، لمخاطر جسيمة. من جهة أخرى، وُجهت انتقادات لاذعة للقانون باعتباره “أول قانون رقابة رقمية مشفر تحت شعار حماية الأطفال”، في وقت بدأت فيه الديمقراطيات الغربية تتنافس على تنظيم الإنترنت بشكل صارم.

الحكومة تحت ضغط داخلي وخارجي متزايد

داخل أروقة الحكومة البريطانية، يزداد التوتر. البعض يرى أن التشريع يتم تطبيقه بطريقة “متشددة”، والبعض الآخر يخشى أن يتحول إلى أداة سياسية تستخدمها المعارضة أو الجهات الإعلامية لتسليط الضوء على إخفاقات محتملة. أكثر من نصف مليون شخص وقعوا على عريضة تطالب بإلغاء القانون، بينما وصفت أحزاب مثل “Reform UK” القيود المفروضة على المحتوى بأنها “رقابة وحشية”. في الوقت ذاته، وصف مسؤول حكومي بارز تصريحات أندريسن بأنها “استعراض عضلات من عمالقة التكنولوجيا الغاضبين من قدرة بريطانيا على تغريمهم مبالغ ضخمة”، مؤكدًا أن لدى الحكومة التزامات بحماية الحريات أيضًا، وليس فقط الأمن الرقمي.

المستقبل: اختبار دولي لمدى صمود النموذج البريطاني

ما يحدث في بريطانيا يُعد سابقة عالمية، حيث أن البلاد هي أول ديمقراطية رئيسية تطبّق هذا النوع من القوانين الصارمة على الإنترنت. الكثير من الدول، خصوصًا في أوروبا وأمريكا، تتابع التجربة البريطانية كـ”حالة اختبار” لقياس مدى قابلية مثل هذه القوانين للتنفيذ، وتأثيرها على الحريات الرقمية. نجاح القانون في حماية الأطفال دون الإضرار بالحريات سيفتح الباب أمام دول أخرى لتقليده، أما فشله فسيُشكّل سابقة قانونية وسياسية تُستغل لمهاجمة تنظيم الإنترنت في الديمقراطيات الغربية. وبين هذا وذاك، تظل الأسئلة الكبرى مطروحة: هل يمكن فعلاً تنظيم الإنترنت دون انتهاك الحرية؟ وهل الحكومة مستعدة لمواجهة تداعيات رقابة رقمية غير محسوبة العواقب؟

ما بين دعوات أندريسن الغاضبة، وشكاوى جماعات الخصوصية، وغضب المستخدمين، يقف قانون الأمان الرقمي البريطاني أمام مفترق طرق حاسم. فبينما يحمل في جوهره نوايا نبيلة لحماية الأطفال من محتوى ضار، فإن آليات تنفيذه تفتح أبوابًا واسعة للجدل القانوني والسياسي والتقني. إن لم تُراجع الحكومة أسلوب تطبيق هذا القانون، فقد يتحوّل من وسيلة لحماية الجيل الجديد إلى أداة تُهدد جوهر الإنترنت الحر والمنفتح. وفي عالم تتسارع فيه الابتكارات وتتعمق فيه الاختراقات، يبقى الخيار الأخطر هو استخدام القوانين بمعزل عن الواقع التكنولوجي، وبعيدًا عن فهم دقيق لمعادلة “الأمن مقابل الحرية”.

اقرا ايضا

هتفبرك؟ تتحبس.. كيف يحارب القانون فبركه المحتوي والابتزاز الالكتروني ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى