الوكالات

ديون متراكمة وصمت سياسي: بريطانيا تواجه أزمة مالية وجودية خطيرة

تواجه بريطانيا معضلة مالية متفاقمة تتجاوز مجرد عجز في الميزانية أو ركود اقتصادي عابر. إنها دولة تنفق أكثر مما تتحمل، وتدير اقتصادها كمن يستخدم بطاقة ائتمان بلا رصيد ويترك الفاتورة للأجيال القادمة. هذا هو فحوى تقرير “مخاطر المالية العامة” الصادر عن مكتب المسؤولية المالية (OBR)، الذي أطلق ناقوس الخطر حول مستقبل الاقتصاد البريطاني، في وقت تواصل فيه الأحزاب الرئيسية ترديد وعود انتخابية لا تستند إلى أي واقعية مالية.

 

المشكلة أعمق من مجرد أرقام أو نسب مئوية. إنها أزمة ثقة في قدرة النظام السياسي على مصارحة الناخبين بحقائق صعبة. لا أحد يريد أن يقول للناس: “نحن نعيش فوق إمكانياتنا”. فالأحزاب تتهرب من الحديث عن الضرائب أو تقليص الإنفاق، خشية فقدان الشعبية، بينما الواقع يُلحّ على اتخاذ قرارات مؤلمة، لا مفر منها.

 

ثلاث حقائق مُقلقة: الديون، العجز، والعجز عن المصارحة

أبرز ما في التقرير هو وصفه لحالة المالية العامة البريطانية بأنها “مُهددة” و”غير مستعدة للصدمات المستقبلية”. الدين العام والعجز السنوي في تصاعد، والمشكلة أن لا أحد -منذ عهد ديفيد كاميرون- يبدو جادًا في كبح هذا الانفلات المالي. فحتى الإجراءات الرمزية لضبط الإنفاق باتت مستبعدة سياسيًا، في ظل مناخ شعبوي معادٍ للضرائب.

 

أزمة “القفل الثلاثي” للمعاشات: عدالة الماضي وكارثة المستقبل

بدأت فكرة “القفل الثلاثي” للمعاشات كأداة نبيلة لحماية المتقاعدين من الفقر، إذ تضمن زيادة المعاشات وفقًا لأعلى معدل بين التضخم أو الأجور أو 2.5%. لكنها تحولت إلى عبء مالي ضخم. كانت التقديرات تشير إلى أنها ستكلف الخزينة 5.2 مليار جنيه سنويًا بحلول 2030، لكن الرقم الحقيقي أصبح 15.5 مليار. والأسوأ أن عدد دافعي الضرائب سينخفض مقابل ارتفاع أعداد المتقاعدين، ما يفاقم الضغط على النظام المالي.

 

شجاعة مفقودة: لا حزب يملك الجرأة على قول الحقيقة

عندما أثارت زعيمة المحافظين كيمي بادنوش تساؤلات حول استدامة القفل الثلاثي، هاجمها حزب العمال فورًا، رغم أن الجميع يدرك استحالة استمرار هذا النظام ماليًا. حزب العمال نفسه تراجع عن اقتراح لتقليص بدل التدفئة الشتوية للمتقاعدين، خوفًا من ردة فعل شعبية. النتيجة؟ استمرار السياسات المكلفة دون مراجعة حقيقية.

 

وعود كاذبة من الجميع: لا ضرائب… ولا تقشف… ولا منطق

في الانتخابات الأخيرة، وعد الحزبان الكبيران بعدم رفع الضرائب أو خفض الإنفاق — رغم أن المعادلة الاقتصادية لا تسمح بأي من الخيارين دون الانزلاق نحو أزمة ديون حادة. وبدلاً من تخفيض الدين، باتت السياسة العامة تقيس النجاح بـ”عدم جعل الأمور أسوأ”. حتى وزير المالية جيريمي هانت قدّم حزم تخفيضات ضريبية بدون أي خطة لتعويض الخسائر.

 

دولة تنزف ولا تملك أدوات الإسعاف

الحكومة البريطانية تواجه صعوبة متزايدة في تمويل نفقاتها الأساسية: الدفاع، الرعاية الاجتماعية، البنية التحتية. ورغم الحاجة الماسة لإصلاحات هيكلية، فإن السياسة تفرض قيودًا تمنع مجرد النقاش الجاد حول الاستحقاقات الاجتماعية، أو فرض رسوم على الخدمات العامة، أو إعادة هيكلة نظام الضرائب.

 

الشعب لا يريد أن يسمع… والسياسيون يخشون أن يتكلموا

المعضلة الكبرى ليست فقط في عجز الدولة، بل في عجز النظام السياسي عن توعية الناس بأن “الإنفاق السخي لا يمكن أن يستمر دون ثمن”. الأحزاب تخاف من رد الفعل الشعبي، وتفضل فرض زيادات خفية أو ضرائب على الشركات بدلاً من مواجهة المواطنين مباشرة. حتى الدعوات لفرض ضرائب على الثروات تبدو شعارات فارغة أمام قدرة الأغنياء على تجنبها قانونيًا.

 

عندما يسبق السوق السياسيين: درس من كارثة ليز تراس

تجربة رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس، التي انهارت حكومتها بعد إعلان خفض ضريبي غير ممول، تُثبت أن الأسواق قد تُجبر الدولة على مواجهة الواقع حين يفشل السياسيون في ذلك. بريطانيا محظوظة أن الفائدة على السندات لم تنفجر بعد، لكن هذا لا يعني أن الخطر بعيد.

اقرأ أيضاً غواصة “بلوويل” الإسرائيلية تقترب من ألمانيا: سباق تحت البحر ضد تهديدات الغد

نحن لسنا وحدنا… لكننا أكثر هشاشة

صحيح أن دولًا مثل فرنسا تواجه نسب ديون أسوأ، لكن بريطانيا أكثر هشاشة بحكم مركزها المالي العالمي وتاريخها الطويل في الاعتماد على ثقة الأسواق. وإذا لم تواجه لندن أزمة ديونها عاجلًا، فقد تجد نفسها مضطرة إلى تقشف مؤلم… لكن هذه المرة دون رفاهية الخيار.

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى