عرب وعالم

الصين النووية تسبق أمريكا.. الطاقة ترجّح كفة بكين

بينما تتنافس الولايات المتحدة والصين على قيادة النظام العالمي، أصبحت الطاقة ساحة المعركة الجديدة بينهما، إذ لم يعد الصراع مقتصرًا على التكنولوجيا أو الاقتصاد فحسب، بل امتد إلى قلب معادلة القوة المستقبلية: الطاقة. ففي حين ترسّخ واشنطن موقعها كمصدر رئيسي للنفط والغاز والفحم، تُهيمن بكين على الصناعات النظيفة مثل الألواح الشمسية، وتوربينات الرياح، والمركبات الكهربائية، والبطاريات. واليوم تتقدم الصين بخطى متسارعة نحو الريادة في الطاقة النووية، حيث تبني محطات جديدة بوتيرة استثنائية، ويقارب عدد مفاعلاتها قيد الإنشاء مجموع ما تبنيه بقية دول العالم مجتمعة. ووفقًا لتقرير صادر عن صحيفة نيويورك تايمز، من المتوقع أن تتجاوز القدرة النووية للصين نظيرتها الأمريكية بحلول عام 2030، لتصبح بكين القوة الأولى في إنتاج الطاقة الذرية السلمية.

 

تفوق صيني في الابتكار النووي

 

رغم أن معظم المفاعلات النووية الصينية ستُمدت في بدايتها من التصاميم الأمريكية والفرنسية، فإن بكين تمكنت من تجاوز مشكلات التأخير وتضخم التكاليف التي أعاقت توسّع الغرب في هذا المجال. وقد أحرزت تقدّمًا نوعيًا في تطوير تقنيات الجيل الجديد من المفاعلات، كما ضاعفت استثماراتها في أبحاث الاندماج النووي، وهو مصدر للطاقة النظيفة شبه اللامحدودة. ونجحت الصين بالفعل في بناء أول مفاعل نووي من “الجيل الرابع” في العالم، يُبرد بالغاز ويوفر الحرارة والبخار للصناعات الثقيلة إلى جانب الكهرباء. وتسعى كذلك إلى تطوير تقنيات تستخدم كميات أقل من اليورانيوم، مثل مفاعلات الثوريوم، أو تعيد تدوير الوقود النووي المستهلك، ما يمنحها تفوقًا علميًا واستقلالًا استراتيجيًا في موارد الطاقة المستقبلية.

 

أمريكا تحاول اللحاق بالركب

 

في المقابل، تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على مكانتها النووية بعد سنوات من التباطؤ. إذ أعلنت واشنطن نيتها مضاعفة قدراتها في هذا المجال أربع مرات بحلول عام 2050، مع التركيز على تطوير جيل جديد من المفاعلات يمكن أن يزوّد مراكز البيانات العملاقة بالكهرباء النظيفة ويُصدّر للدول النامية. ومع ذلك، تُجمع تقارير علمية على أن الصين تتقدم بفارق واضح، بعدما خفّضت زمن بناء المفاعلات إلى خمس أو ست سنوات فقط، أي أسرع بمرتين من المعدل الغربي. كما استطاعت خفض التكاليف إلى النصف خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قبل أن تستقر لاحقًا، وفق ما نشرته مجلة نيتشر، في حين ظلت تكاليف البناء في الغرب في ارتفاع مستمر.

 

سر الإتقان الصيني

 

يرى الخبراء أن نجاح بكين يعود إلى مزيج من التخطيط المركزي والدعم المالي السخي. فثلاث شركات نووية مملوكة للدولة تحصل على قروض ميسّرة مدعومة من الحكومة لتشييد مفاعلات جديدة، إذ قد تمثل تكاليف التمويل وحدها ثلث الميزانية. كما تلزم السلطات مشغلي شبكات الكهرباء بشراء جزء من الطاقة المنتجة من المحطات النووية بأسعار تفضيلية، بما يضمن عائدًا مستقرًا للشركات. لكن العامل الأهم هو أن الصين تركز على بناء عدد محدود من تصاميم المفاعلات وتكرارها مرارًا، ما يسمح بتحسين الأداء وخفض الأخطاء وزيادة الكفاءة. ومع تراكم الخبرة، أصبح تطوير المفاعلات يتم بوتيرة أسرع وأكثر دقة، في نموذج تصنيع أشبه بخط إنتاج صناعي عملاق للطاقة النووية.

وحدة أساسية للمفاعل الصغير متعدد الأغراض ACP100 في مقاطعة لياونينج الصينية

تراجع النموذج الغربي

 

على الجانب الآخر، تراجع بناء المفاعلات النووية في الولايات المتحدة منذ سبعينيات القرن الماضي، بسبب ارتفاع أسعار الفائدة وتشديد القواعد التنظيمية بعد حوادث مثل الانهيار الجزئي لمفاعل “ثري مايل آيلاند” عام 1979، إضافة إلى المخاوف من النفايات النووية وتكلفتها الباهظة. وفي مطلع الألفية الجديدة حاولت شركات المرافق الأمريكية إحياء الصناعة من خلال مفاعل جديد يُعرف باسم AP1000، لكن المشروع واجه تأخيرات مزمنة وارتفاعًا هائلًا في التكاليف. وبينما توقفت أغلب المشاريع الأمريكية، درست الصين التجربة نفسها بعمق، وحللت أسباب الإخفاق، ثم عدلت التصميم وطوّرت سلاسل توريد محلية. والنتيجة: بناء تسعة مفاعلات جديدة من النسخة المطورة CAP1000، من المتوقع إكمالها جميعًا خلال خمس سنوات فقط وبتكلفة أقل بكثير، بحسب تقرير وزارة الطاقة الأمريكية.

منذ السبعينيات بدأ التراجع النووي الأمريكي يتسارع.

الطاقة.. سلاح الصين القادم

 

في الوقت الذي يعيد فيه العالم اكتشاف أهمية الطاقة النووية كحلٍّ لأزمة المناخ وضمانًا لأمن الطاقة، تبدو الصين في موقع غير مسبوق لتقود هذا التحول العالمي. فنجاحها لم يعد مجرد تفوق تقني، بل تحوّل إلى رهان استراتيجي طويل الأمد يربط بين الاقتصاد، والابتكار، والهيمنة الجيوسياسية. فبينما تتباطأ الخطوات الغربية أمام البيروقراطية وتعقيدات السوق، تواصل بكين بناء مفاعلاتها بوتيرة لا تعرف التراجع، مستندة إلى نموذج إنتاج موحد وخبرة متراكمة. وإذا حافظت الصين على هذا النسق، فقد تتحول الطاقة النووية إلى ركيزة قوتها الناعمة الجديدة، تُرسّخ بها نفوذها في النظام الدولي، وتضع العالم أمام معادلة جديدة: من يملك السيطرة على الطاقة النظيفة، يملك مستقبل القوة العالمية.

اقرأ أيضاً

قمة بروكسل تثمر اتفاقيات استراتيجية بين مصر والاتحاد الأوروبي لدعم التنمية والتحول الأخضر

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى