السياسة البريطانية في دائرة مفرغة: هل رؤية فاراج الشعبوية هي الحل أم مجرد صدى؟
زعيم حزب الإصلاح البريطاني، تصريحات استُقبلت كالعادة بوابل من الانتقادات

في زيارة حديثة إلى جنوب ويلز، أطلق نايجل فاراج، زعيم حزب الإصلاح البريطاني، تصريحات استُقبلت كالعادة بوابل من الانتقادات. وُصفت هذه التصريحات بأنها سخيفة، متعالية، متناقضة، انتهازية، بل وحتى غبية. ففي مؤتمر صحفي بمدينة بورت تالبوت.
تحدث فاراج عن إمكانية إعادة تشغيل أفران صهر الحديد، ثم تراجع قائلاً إنه ربما يكون من الأسهل بناء فرن جديد، رغم أن ذلك “سيكلف مليارات قليلة”. وبعدها بدأ يحلم بإعادة فتح المناجم في ويلز، قائلاً إن الناس سيتقبلون المخاطر “طالما كانت الوظائف برواتب مجزية”.
لكن كعادته، تجاهل فاراج تمامًا الأبعاد البيئية، ولم يبدِ أي رأي بشأن المشكلات المعروفة المرتبطة بالفحم مثل التلوث،وانزلاقات التربة، والأنهار السوداء، وكوارث التعدين المدفونة تحت الأرض. وحين سُئل عن أماكن فتح المناجم الجديدة.
أجاب بكل بساطة: “يعتمد ذلك على الجيولوجيا”، متجاهلاً وجود أحياء سكنية ومجمعات صناعية شُيّدت فوق تلك الطبقات المهجورة.
كان هذا كله مجرد استعراض سياسي فارغ، يعرف فريق فاراج أنه سيؤتي ثماره من حيث التأثير الجماهيري والإعلامي.
فالصورة التي خرج بها الحدث كانت واضحة: السياسي الشعبوي الأشهر في بريطانيا يتعهد بـ”إعادة التصنيع” في وجه النخب “البعيدة” التي يمكن بسهولة شيطنتها. وهكذا، يعيد فاراج تكرار وصفة أثبتت فعاليتها مرارًا في السياسة البريطانية.
استمرار لظروف ما قبل “بريكست” يغذي صعود فاراج
لا يرتبط نجاح نايجل فاراج بمهاراته الشعبوية فحسب، بل بجوهر الواقع الاقتصادي والاجتماعي البريطاني الذي لم يتغير منذ صعود حزب الاستقلال البريطاني واستفتاء بريكست. فما زالت بريطانيا تعاني من ضعف في النمو والإنتاجية، وتقشف محلي.
وجمود الأجور، وخوف واسع من المستقبل. وهي ظروف تغذي النفور الشعبي من الساسة التقليديين، وتُشعر المواطن بأن البلاد تدور في حلقة مفرغة لا تنكسر، وأن وستمنستر لا تملك الإرادة أو القدرة على التغيير.
دوامة الانحدار وأعراضها العنيفة في المشهد البريطاني
وكلما دارت عجلة هذا الانحدار، ظهرت أعراضه بشكل أكثر عنفًا. فبدلاً من أن تشير نتائج الانتخابات إلى تغير العصور، أصبحت الاضطرابات المدنية دليلاً أكثر وضوحًا على انهيار النظام. فبعد أحداث العنف الصيفي في سالفورد العام الماضي.
جاءت أحداث باليمينا الأخيرة التي كشفت عن تصاعد عنصري خطير. واستغلها فاراج كعادته ليقول: “لو كانوا استمعوا إلي، لما حدث هذا”، رابطًا نفسه بالحلول لمشكلات المجتمع البريطاني.
الإحساس الجمعي بالخطر: فاراج كـ “مُخلّص” أو كابوس سياسي؟
ما لا يُطرح كثيرًا في الصحافة السياسية هو سؤال بسيط: ما الذي يشعر به البريطانيون في حياتهم اليومية؟ الجواب باختصار هو شعور دائم بالتوتر وخوف كامن من كارثة وشيكة. فاراج يستغل هذا الشعور ببراعة، ويقدم نفسه كجواب له، لكن للكثيرين، هو ذاته مصدر هذا القلق.
وهذه القدرة على إثارة الإعجاب والخوف في آن واحد، تضعه في نفس فئة “السياسيين الظاهرة” أمثال دونالد ترامب، مما يجعله شخصية محورية في السياسة الشعبوية.
كيف هيمن نايجل فاراج على السياسة الرقمية البريطانية؟
في زمن أصبحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي تحدد ملامح الحياة السياسية أكثر من التلفزيون، برز فاراج كلاعب محوري.
فعدد متابعيه على “تيك توك” يتجاوز 1.3 مليون – أكثر من جميع الساسة البريطانيين الآخرين مجتمعين. ومنصات مثل X (تويتر سابقًا) صارت تروّج لرؤيته، حيث تختلط مقاطع العنف مع نظرية المؤامرة، في مشهد يزدهر فيه خطاب فاراج. هذه الهيمنة الرقمية تبرز تأثيره في الخطاب السياسي البريطاني الحديث.
“السبب الحقيقي لمشكلاتكم: الأجانب والطبقة الحاكمة” – رسالة فاراج البسيطة
تتجلى الرسالة الأساسية لـفاراج بوضوح: “أنتم خائفون وتعانون، لأن الحكومة تنفق أموالكم على الأجانب، ولأن النخبة لا تفهم معاناتكم”. هذا الخطاب البسيط والقوي، يقابله ضعف مذهل في خطاب السياسيين التقليديين. فكما قال عمدة مانشستر أندي بورنهام، فإن الإعلام الجديد أنهى زمن “الخطاب المعقد”، والناس اليوم يريدون آراء مباشرة و”أصيلة”. هذه هي استراتيجية فاراج الشعبوية.
حضور شعبي لنايجل فاراج مقابل سياسيين باهتين
شاهدت فاراج مؤخرًا يتجول في أحد أحياء سكونثورب، يلتف حوله الناس لالتقاط الصور. ورغم ادعائه “الواقعية”، فإن معظم ما يفعله جزء من أداء مدروس بعناية – من ملابسه إلى تعليقاته المتعمدة. ومع ذلك، في وقت تفتقر فيه السياسة البريطانية إلى الكاريزما، يبدو مجرد التصرف بطبيعية كأنه إنجاز خارق، مما يفسر جاذبيته الجماهيرية.
هل حزب العمال خصمه المثالي في الانتخابات البريطانية؟
في هذا السياق، يُعد كير ستارمر وقيادات حزب العمال الخصوم المثاليين لـفاراج. باستثناء أنجيلا راينر، تفتقر قيادات الحزب إلى الحيوية وتتشبث بأساليب تقديم قديمة. فبين “المهام” و”الرؤية” و”النمو”، يغيب عنهم التفاعل الحقيقي مع الناس.
وحتى عندما يحاول ستارمر تقليد نبرة فاراج في منشورات مثل: “لقد أعدت أكثر من 24 ألف شخص لا يحق لهم البقاء هنا”، تبدو الكلمات جوفاء، مما يبرز التحديات التي يواجهها العمال في مواجهة فاراج.
المستقبل المؤجل.. والفراغ الذي يملؤه فاراج في المشهد السياسي
رغم أن مراجعة الإنفاق الأخيرة تضمنت أخبارًا إيجابية، خصوصًا في ملف الإسكان، فإن نتائجها لن تُلمس قبل 2028 أو 2029.
وهذا يعني أن الحياة اليومية في بريطانيا ستظل تدور في دوامة التراجع، مما يمنح فاراج سنوات إضافية لصناعة الاضطراب، مستفيدًا من واقع مأساوي فشل الآخرون في تغييره. بينما هو يبدو – بفضل تلك الفوضى – كأنه السياسي الوحيد الذي يفهم كيف تُمارس السياسة في القرن الحادي والعشرين ويملأ الفراغ السياسي الحالي.