أمريكا تضرب قلب سوق الذهب العالمي.. وسويسرا تنزف بمليارات الدولارا
تداعيات السوق المستقبلية للذهب: يقلب موزين السوق العالمى

في خطوة مفاجئة تهدد استقرار أحد أكثر الأسواق حساسية عالمياً، أعلنت الولايات المتحدة فرض رسوم جمركية على واردات سبائك الذهب بوزن كيلوغرام واحد، وهو القرار الذي شكّل ضربة موجعة لسويسرا، أكبر مركز لتكرير الذهب في العالم. وبحسب تقرير فايننشال تايمز الصادر يوم أمس، فإن هذا القرار جاء استنادًا إلى خطاب رسمي من وكالة الجمارك وحماية الحدود الأمريكية (CBP) صدر في 31 يوليو 2025، وأعاد تصنيف السبائك تحت رمز جمركي يخضع لضرائب، متجاوزًا التوقعات السابقة بإعفائها. التأثير لم يكن اقتصاديًا فقط، بل سياسيًا أيضًا، إذ جاء وسط توتر متصاعد في العلاقات بين واشنطن وبرن، وأثار هذا التغير قلقًا واسعًا في قطاع الذهب العالمي الذي يعتمد على حركة انسيابية ومعايير تصنيف دقيقة.
إعادة تصنيف جمركي تقلب موازين السوق العالمي
القرار الأمريكي الذي صدر من وكالة الجمارك أعاد تصنيف سبائك الذهب من فئة كيلوغرام و100 أونصة إلى رمز جمركي 7108.13.5500، مما يعني إخضاعها لرسوم جمركية جديدة ضمن حزمة الرسوم التي أعيد تفعيلها في إطار ما يُعرف بسياسة “تحرير التجارة” التي يتبناها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. المفارقة أن هذه السبائك كانت تُعامل سابقًا تحت رمز 7108.12.10، وهو الرمز المعفي من الرسوم، ما فتح الباب أمام تساؤلات قانونية وتجارية واسعة حول حدود الدقة والوضوح في التصنيفات الجمركية. التغيير المفاجئ أحدث ارتباكًا بين التجار والمصافي، خصوصًا في سويسرا التي تشكل المصدر الأول للذهب إلى السوق الأمريكي، الأمر الذي يدفع بعضهم الآن لتعليق الشحنات أو مراجعة موقفهم القانوني تجاه الصادرات.
انعكاسات مباشرة على السوق الأمريكية والعالمية
سبائك الكيلوغرام تمثل الشكل الأكثر تداولاً في بورصة “كوميكس” (Comex) الأمريكية، وهي السوق الأضخم عالميًا لعقود الذهب الآجلة، وبهذا فإن قرار الجمارك لا ينعكس على سويسرا وحدها، بل يهدد بانكماش السيولة في السوق الأمريكية نفسها. فور إعلان القرار، قفزت أسعار الذهب في عقود ديسمبر الآجلة إلى مستوى تاريخي بلغ 3534 دولارًا للأونصة، وهو رقم غير مسبوق في تداولات الذهب. التجار الذين كانوا قد سارعوا في وقت سابق إلى تخزين الذهب تحسبًا لرسوم ترامب، يجدون أنفسهم الآن أمام موجة جديدة من التقلبات. الذهب الذي تدفق بكميات قياسية إلى السوق الأمريكية بداية العام، عاد ليصبح سلعة نادرة في لندن، وهو ما قد يعيد تشكيل تدفقات السوق العالمية التي تعتمد على المسارات الثلاثية بين لندن ونيويورك مرورًا بسويسرا.
سويسرا في قلب العاصفة: صناعة الذهب تحت الضغط
سويسرا ليست فقط مركزًا لوجستيًا لتكرير الذهب، بل هي عصب تصديري في القطاع. وخلال العام المنتهي في يونيو 2025، بلغت صادراتها من الذهب إلى الولايات المتحدة نحو 61.5 مليار دولار. ومع دخول الرسوم الجديدة حيز التنفيذ بنسبة 39%، فإن هذا الحجم من الصادرات أصبح عرضة لضرائب تقدر بنحو 24 مليار دولار إضافي. بحسب كريستوف وايلد، رئيس اتحاد مصنّعي وتجار المعادن الثمينة في سويسرا، فإن هذا القرار يمثل “ضربة جديدة” لسوق الذهب السويسري، وقد يؤدي إلى عرقلة تدفق المعدن الأصفر إلى الولايات المتحدة. المصافي الكبرى في البلاد بدأت بالفعل في تعليق الشحنات أو تقليصها بشكل مؤقت، بينما تنكب فرق قانونية على دراسة التصنيفات الجمركية المعقّدة لمحاولة حماية استثماراتها.
التبعات الجيوسياسية والتجارية للعلاقات الأمريكية السويسرية
في الخلفية، لا يمكن فصل هذا القرار الجمركي عن تدهور العلاقات بين واشنطن وبرن، خصوصًا بعد إعلان الولايات المتحدة الأسبوع الماضي فرض رسوم شاملة بنسبة 39% على واردات من سويسرا، ضمن إجراءات أوسع تستهدف دولاً حليفة. سويسرا التي كانت تُعد شريكًا محايدًا تاريخيًا، تجد نفسها اليوم في مرمى نيران اقتصادية تتجاوز قطاع الذهب. التوترات الحالية تؤثر على قطاعات أخرى مثل الساعات الفاخرة والأدوية والتكنولوجيا الحيوية، ما يجعل التصدير إلى الولايات المتحدة محفوفًا بعدم اليقين. ومع دخول شركات سويسرية مرحلة الترقب والحذر، فإن الموقف الأمريكي قد يُقرأ أيضًا في سياق استعادة واشنطن لسيطرتها على الأسواق الحيوية، وتوجيه الرسائل الضمنية لشركاء كانوا يعتبرون أنفسهم في مأمن من سيف الرسوم الجمركية.
تداعيات السوق والاتجاهات المستقبلية للذهب
رالي الذهب الذي بدأ منذ أواخر 2024 واكتسب زخماً إضافيًا في 2025 بسبب التضخم المتسارع وتراجع الدولار والديون السيادية، مرشح الآن لمزيد من التصاعد. قرار الجمارك أعاد إشعال المضاربة في الأسواق، بينما تعاني بورصات أوروبا وآسيا من شح في المعروض. يفضل سوق لندن سبائك بوزن 400 أونصة، بينما تفضل نيويورك سبائك الكيلوغرام، ما يعني أن “إعادة الصهر” في سويسرا لم تعد مجدية أو مربحة بنفس القدر. الخبراء يحذرون من أن القرار الأمريكي قد يؤدي إلى إعادة رسم خرائط التجارة العالمية للذهب، وإلى بروز أسواق بديلة في آسيا والشرق الأوسط تكون أكثر مرونة في التعامل الجمركي، خصوصًا مع تنامي التوجه العالمي نحو التخلص من هيمنة الدولار الأمريكي كعملة احتياط.
الرسوم الجمركية الأمريكية تشعل سباق السيطرة على أسواق الذهب العالمية
الرسوم الجمركية الجديدة على سبائك الذهب ليست مجرد خطوة تقنية ضمن سياسة تجارية ضيقة، بل تعكس تحوّلًا عميقًا في هيكل النظام الاقتصادي العالمي. القرار الأمريكي بإخضاع أكثر أشكال الذهب تداولًا للرسوم، يهدد ليس فقط تدفقات التجارة بين الحلفاء، بل مستقبل الأسواق المالية المرتبطة بالمعدن الأصفر. سويسرا، التي طالما تمتعت بموقع استراتيجي في عالم الذهب، تواجه اليوم تحديًا غير مسبوق في الحفاظ على موقعها كمركز عالمي للتكرير وإعادة التصدير. ومع اضطراب علاقات التوريد، وتصاعد أسعار الذهب، وتنامي الشكوك حول استقرار النظام المالي، يبدو أن العالم يدخل فصلًا جديدًا من الصراع الاقتصادي… عنوانه هذه المرة: من يملك الذهب؟ ومن يتحكم في حركته؟