الاقتصاد

توترات تجارية تُعيد تشكيل الاقتصاد العالمي: سياسات ترمب تُربك الأسواق وتجمّد الاستثمارات

منذ عودته إلى البيت الأبيض، لم يتوقف الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عن ضخ مفاجآت سياسية واقتصادية أربكت أسواق العالم وأثارت حيرة كبريات الشركات العالمية.

فبينما توقع المستثمرون موجة من الانفراج الاقتصادي وازدهار صفقات الدمج والاستحواذ تحت شعار “أمريكا أولاً”، جاءت قرارات ترمب المتسارعة بشأن الرسوم الجمركية لتخلق مناخًا من الشك والارتباك، دفع الشركات إلى التريث في تحركاتها والاستثمارات إلى التجميد المؤقت.

فقد أطلق ترمب موجة من الرسوم الانتقامية تحت مسمى “التعريفة المتبادلة”، استهدفت دولًا حليفة ومنافسة على حد سواء. وبدلاً من تحفيز إعادة التوطين الصناعي داخل الولايات المتحدة، خلقت هذه القرارات موجة من التردد العالمي، حيث أصبح مستقبل سلاسل الإمداد عرضة لقرارات رئاسية متقلبة وغير قابلة للتنبؤ. وقد بدا جليًا أن الأزمة الحالية لا تشبه صدمات سابقة كالركود الكبير أو جائحة كورونا، لأنها في جوهرها “أزمة يقودها فرد”.

رغم التصريحات النارية، لم تتجه الشركات بعد إلى إعادة تموضع جذري، بل تبنت سياسة “الانتظار والمراقبة”. ومع استمرار حالة الغموض، أصبح الاقتصاد العالمي يقف أمام مفترق طرق حقيقي: بين التكيف مع نزعة حمائية متصاعدة أو السعي للبقاء في دائرة العولمة التقليدية.

تفاقم الجمود الاستثماري وسط ارتباك عالمي

قرارات ترمب التجارية لم تسفر حتى الآن عن موجة إعادة توطين للمصانع أو سلاسل الإمداد داخل الولايات المتحدة، كما روّج لها، بل العكس تمامًا. تجمدت الاستثمارات، وتباطأت صفقات الدمج والاستحواذ. فالعديد من الشركات تترقب وتتجنب الالتزامات بعيدة المدى، في ظل أجواء من عدم اليقين السياسي والتجاري، حيث يصعب بناء خطط استراتيجية على أساس قرارات قد تتغير بين ليلة وضحاها. هذا التجميد ليس فقط قرارًا احترازيًا، بل رد فعل منطقي على تقلبات لا تخضع لقواعد مؤسسية واضحة، بل لمزاج رجل واحد.

 

صفقات مؤجلة ورؤوس أموال تنتظر

في مشهد غير مألوف، أوقفت مؤسسات استثمارية كبرى صفقاتها أو أعادت تقييمها بالكامل. مسح أجرته PwC كشف أن نحو 30% من المستثمرين قرروا تجميد أو تعديل صفقاتهم بسبب الرسوم الجمركية الجديدة. من أبرز الصفقات التي توقفت: عرض شراء وحدة تابعة لشركة بوينغ، وبيع مرتقب بقيمة 4 مليارات جنيه إسترليني لشركة تأمين. هذا الجمود خلق تراكمًا ضخمًا في الأصول غير المستثمرة، حيث تُقدّر قيمة الأموال المجمدة لدى شركات الاستثمار المباشر بحوالي تريليون دولار، كان من الممكن إعادة ضخها في السوق لولا مخاوف التقلبات.

بريطانيا أول المفاوضين.. وأول المتعثرين

كانت المملكة المتحدة أول من وقع اتفاقًا تجاريًا مع إدارة ترمب الجديدة في مايو، لكنها لم تحصد ثمار السبق. فلا تزال بنود الاتفاق غير واضحة، وتخضع لاحتمال إعادة التفاوض في أي وقت. فمثلًا، حاولت لندن انتزاع استثناء من الرسوم الجمركية على الصلب، إلا أن ترمب أصدر أمرًا تنفيذيًا يسمح بإعادة فرض رسوم تصل إلى 50% في حال رأت إدارته أن بريطانيا لم تقلص دور الصين في سلاسل التوريد الخاصة بها. هذه البنود الفضفاضة تعكس عقلية متقلبة تجعل أي اتفاق عرضة للنسف في أي لحظة.

تحولات في سلاسل الإمداد.. بلا نتائج حاسمة

مع اشتداد الضغط الجمركي، سعت بعض الشركات إلى تغيير مسارات سلاسل التوريد أو تنويعها. لكن التغيير كان محدودًا. عمليات إعادة التموضع الصناعي تتطلب سنوات، وأغلب الشركات لم تتجاوز مرحلة التخطيط أو التنويع البسيط في المصادر. هناك توسع في استخدام المستودعات الجمركية المؤجلة، وزيادة في التخزين الاحتياطي لتفادي رسوم مفاجئة، لكن دون تحولات استراتيجية كبيرة. فالشركات لا تزال تراهن على استقرار محتمل أو تغيّر سياسي في الأفق، ما يجعلها تتحفظ على التغيير الجذري.

موانئ مزدحمة وأسعار متصاعدة

أحد الآثار المباشرة لتوترات التجارة هو الازدحام المتزايد في الموانئ العالمية، لاسيما الأوروبية مثل ميناء روتردام. فمع محاولة الشركات الهروب من التعريفات الجديدة، ازدادت حركة الشحن والاستيراد العاجل، ما رفع أسعار التخزين والنقل البحري. كما بدأت الأسعار في الارتفاع على المستهلكين النهائيين، خاصة في السلع التي يصعب استبدال مصادرها، مثل الأجهزة المنزلية الكبيرة أو المواد الخام الصناعية، ما يهدد بتفاقم موجات التضخم العالمية.

الرسوم الأعلى منذ عقود وتراجع النمو

بلغ متوسط الرسوم الجمركية الفعلية في الولايات المتحدة نحو 15.8%، وهو الأعلى منذ عام 1936، بحسب “معمل ميزانية ييل”. هذه الطفرة في الرسوم أثارت قلق المؤسسات الدولية، حيث خفض كل من البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي توقعاتهما لنمو الاقتصاد الأمريكي والعالمي، محذرين من أن حالة اللايقين قد تتحول إلى تباطؤ فعلي في الأشهر المقبلة، خاصة إذا استمرت هذه السياسة الحمائية دون استقرار تشريعي أو تعاوني دولي.

صناعات كبرى في مرمى الرسوم
القطاع الدوائي بات من أبرز المتأثرين. إدارة ترمب تدرس فرض رسوم على الواردات الدوائية، واستهدفت تحديدًا إيرلندا، التي تُعد مركزًا لصناعة الأدوية العالمية. رغم أن شركات كبرى مثل “ميرك” و”جونسون آند جونسون” بدأت بتخزين الأدوية داخل أمريكا كإجراء احترازي، إلا أن نقل الإنتاج إليها يبقى مكلفًا ومعقدًا، لا سيما في صناعات شديدة التنظيم مثل الأدوية. أي تحرك غير محسوب هنا قد يؤدي إلى نقص في الأدوية أو ارتفاع هائل في أسعارها.

مخاوف من آثار عكسية على الاقتصاد الأمريكي

رغم أن ترمب يروج لرسومه الجمركية كوسيلة لحماية الصناعات الأمريكية، إلا أن خبراء يرون أن التأثير الأكبر قد يطال المستهلك الأمريكي نفسه. فعلى سبيل المثال، الرسوم المضاعفة على الصلب ستؤدي على الأرجح إلى رفع أسعار المواد الخام، ما سيزيد التكاليف على الشركات والمستهلكين، ويُعيد سيناريو 2018، حين خلقت الرسوم ألف وظيفة جديدة في قطاع الصلب، لكنها ألغت 75 ألفًا في قطاعات صناعية أخرى. يرى مراقبون أن التهديد الأكبر لا يكمن في الرسوم بحد ذاتها، بل في كونها قرارات سياسية غير مستقرة، تُربك حسابات السوق وتعيق التعافي الاقتصادي العالمي

 

أقرا أيضا

بعد توجيهات رئاسية .. السيد خضر يوضح لـ ” العالم في دقائق” كيفية الاستثمار في قطاع السيارات

نوران الرجال

نوران الرجال باحثة اقتصادية وكاتبة صحفية متخصصة في شؤون النقل البحري والاقتصاد البحري، وتشغل عضوية لجنة النقل البحري بالجمعية العمومية العلمية للنقل. كما تتولى منصب المدير العام لمركز العربي للأبحاث البحرية والاستراتيجية، حيث تسهم في صياغة الرؤى وتقديم الدراسات الداعمة لتطوير قطاع النقل البحري في المنطقة العربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى