مليون ضحية روسية في أوكرانيا حرب دامية تترك ندوبا لا تمحي في المجتمع الروسي
ارتفاع عدد ضحايا حرب روسيا وأوكرانيا كارثية في صفوف القوات الروسية

تصاعد أعداد القتلى والجرحى في صفوف القوات الروسية يكشف عن حجم الكارثة التي تسببت فيها الحرب في أوكرانيا، وسط دعاية واسعة النطاق وتعويضات مالية ضخمة تبقي كثيرين في صف الدولة.
في مدينة أوفا الروسية، الواقعة غرب جبال الأورال، يقول نيكولاي، مالك إحدى شركات تجهيز الجنائز، إن عمله شهد تقلبات حادة خلال السنوات الماضية. فمع تفشي جائحة كورونا، ازدهر النشاط بشكل مفاجئ، لكنه عاد للركود بعد انتهاء الأزمة، قبل أن يعاود الارتفاع مجددًا مدفوعًا بأعداد القتلى في أوكرانيا.
يقول نيكولاي، الذي رفض ذكر اسمه الكامل خوفًا من الملاحقة الأمنية:
“أحيانًا أتعرف على أسماء من ندفنهم، فقد يكون أحدهم زميل دراسة أو شخصًا عرفته سابقًا”.
تعتبر مدينة أوفا عاصمة جمهورية بشكورتوستان من أكثر المناطق الروسية التي أرسلت مقاتلين إلى الجبهة، خصوصًا من المناطق الفقيرة المحيطة بها.
ورغم أن موسكو لا تعلن رسميًا عن أعداد قتلاها، فإن المؤشرات على الأرض، من تزايد الجنازات إلى ارتفاع عدد مبتوري الأطراف، تعكس حجم الكارثة. فبحسب بيانات رسمية، جنت شركات الجنازات الروسية ما يقرب من 40 مليار روبل (نحو 380 مليون جنيه إسترليني) بين يناير وأبريل 2025، بزيادة سنوية تجاوزت 12%.
ويُقدَّر إجمالي الخسائر البشرية الروسية – وفق وزارة الدفاع البريطانية – بأكثر من مليون بين قتيل وجريح منذ بدء الغزو في 24 فبراير 2022، منهم نحو 250 ألف قتيل وفق مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) الأمريكي. وبالمقابل، تشير تقديرات إلى أن أوكرانيا فقدت ما بين 60 و100 ألف جندي، مع إجمالي خسائر بشرية تقترب من 400 ألف.
وتعد هذه الأرقام صادمة عند مقارنتها بتاريخ روسيا الحديث؛ إذ تجاوز عدد قتلى أوكرانيا وحدها كل خسائر روسيا وسابقاتها السوفييتية في الحروب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
فخسائر موسكو في هذه الحرب تفوق بـ15 مرة تلك التي تكبدتها خلال عقد كامل في أفغانستان، و10 مرات أكثر من حرب الشيشان الممتدة لـ13 عامًا.
الأمر لا يقتصر على القتلى، بل يعود آلاف الجنود بإصابات دائمة. ففي 2024، قدمت الدولة أكثر من 152 ألف طرف صناعي، بزيادة 53% عن العام السابق، ما دفع شركات الأطراف الصناعية إلى مضاعفة إنتاجها، وسط اعتماد كبير على التكنولوجيا الألمانية.
ويقول مدير إحدى الشركات في الشمال الروسي:
“الطلب تضاعف في عام واحد، ومعظمه من قدامى المحاربين”.
لكن هذه الخسائر لا تقف عند حدود الجبهات؛ فقد ساهمت الحرب في تفاقم الأزمة الديمغرافية الروسية. فمع فقدان عشرات الآلاف من الشباب، وانخفاض متوسط أعمار الذكور من 68 إلى 66 عامًا، ومع توقف الدولة عن نشر بيانات الوفيات منذ عام 2024، تتزايد المخاوف من تأثيرات بعيدة المدى على سوق العمل والنمو السكاني.
الدعاية تُسكت الغضب الشعبي
رغم توقعات بعض المعارضين بأن تؤدي التوابيت القادمة من الجبهة إلى احتجاجات شعبية، فإن الدعاية الرسمية حالت دون ذلك.
فقد صوّرت الدولة القتلى على أنهم “شهداء الأمة”، وحرص الرئيس فلاديمير بوتين في خطاباته على تأكيد أن “الموت في المعركة أشرف من الضياع في الإدمان أو الحوادث”.
وفي لقاء متلفز مع أم أحد الجنود القتلى، قال بوتين:
“ابنك عاش حياته وحقق هدفه، عكس آخرين يموتون دون معنى”.
هذه السردية لاقت قبولًا واسعًا، حتى بين بعض أهالي الضحايا، مثل دميتري شكريبِتس، والد أحد البحارة الذين قتلوا في غرق الطراد “موسكفا”، والذي أصبح لاحقًا من دعاة مواصلة الحرب، بل والدعوة إلى هجوم شامل على أوديسا وميكولايف.
من التعزية إلى التعويض: الدولة تدفع الثمن
ومقابل الصدمة والحزن، توزع الدولة الروسية تعويضات مالية ضخمة. فبحسب مركز “Re:Russia”، أنفقت الحكومة 1.2 تريليون روبل (نحو 15.3 مليار دولار) في عام 2024 لتعويض أهالي القتلى والجرحى.
وتحولت هذه الأموال إلى مصدر جديد للتوتر الاجتماعي، حيث امتلأت المنتديات الإلكترونية برسائل مثل:
“زوجي مات بعد توقيع العقد بيومين فقط، والآن أبناؤه من زواج سابق يقاضونني للحصول على التعويض… من يساعدني؟”
مكافآت الانضمام للحرب تواصل تحفيز التجنيد
ورغم كل الخسائر، فإن آلة الحرب الروسية لا تزال تعمل. فقد جندت روسيا نحو 90 ألف رجل في أول ثلاثة أشهر من 2025 فقط، بحسب تقديرات معهد الشؤون الدولية والأمنية الألماني، مدفوعة بمكافآت توقيع تبلغ 2 مليون روبل (نحو 25 ألف دولار).
لكن نيكولاي، صاحب مكتب الجنازات، ينظر إلى كل ذلك بعين أخرى، إذ يقول:”آمل أن تنتهي الحرب قريبًا… أشعر بالعار من كسب المال من موت شباب في مقتبل العمر”.
خاتمة:
مع استمرار النزيف البشري، وغياب نهاية واضحة للصراع، تطرح الحرب في أوكرانيا أسئلة وجودية على المجتمع الروسي حول الثمن الحقيقي الذي يدفعه المواطنون في صمت، مقابل مشروع توسعي لا يرى نهايته إلا من يعيشونه في أكفان أحبابهم.