الاقتصاد

حصون الديمقراطية الأمريكية تحولت الي افخاخ:حين تصبح المؤسسات ادوات تسريع للتطرف

حصون الديمقراطية الأميركية تحولت إلى أفخاخ: حين تصبح المؤسسات أدوات تسريع للتطرف

لطالما تباهى الأميركيون بأن نظامهم الديمقراطي يتمتع بصلابة مؤسسية فريدة، نجحت على مرّ قرنين من الزمان في تجاوز الأزمات والحروب والانقسامات. لكن في اللحظة الراهنة، وبينما تخضع الولايات المتحدة لاختبار سياسي غير مسبوق في عهد ولاية ترامب الثانية، باتت تلك الحصون المؤسسية نفسها تتحول إلى نقاط ضعف. لقد انقلب منطق النظام السياسي الأميركي رأسًا على عقب: المؤسسات التي صُممت أصلاً لكبح جماح التطرف باتت تُستخدم لترسيخه، والمعايير التي وُضعت للحفاظ على توازن السلطات تُستغل لتوسيع السلطة التنفيذية بلا قيود. في هذا المشهد الجديد، يصبح من الضروري تفكيك آليات هذا التحول المؤسسي العكسي.

 

مؤسسات على الورق فقط: النظام قائم لكن السياق تغير

رغم أن البنية الدستورية الأميركية لم تتغير كثيرًا، فإن السياق السياسي والاجتماعي الذي تعمل فيه قد تبدّل تمامًا. فمع تصاعد الاستقطاب الحزبي، تحولت بعض ركائز الديمقراطية الأميركية إلى أدوات في يد من يسعون لتقويضها. لم تعد الانتخابات الحرة والتداول السلمي للسلطة كافية لضمان بقاء الديمقراطية، إذ تُستغل القوانين نفسها لتكريس الحكم الأحادي وتهميش الرقابة القضائية والتشريعية.

 

السلطة التنفيذية تلتهم الصلاحيات: ولاية ترامب الثانية نموذجًا

منذ عودته إلى البيت الأبيض، بدأ الرئيس دونالد ترامب بتوسيع سلطاته التنفيذية بوتيرة غير مسبوقة، مستهدفًا صلاحيات الكونغرس في الإنفاق، ومحاولًا إعادة تصنيف موظفي الدولة لتسهيل فصلهم. بل إنه أرسل الحرس الوطني إلى كاليفورنيا رغم اعتراض حاكمها، تحت ذريعة “التمرد”. هذه التحركات تضع المؤسسات في مواجهة مباشرة مع رئيس يسعى لتقويض استقلالها، مستفيدًا من الصلاحيات التي كانت في الأصل مصممة لحماية النظام.

قوس العدالة يتشقق: القضاء تحت التهديد

رغم أن المحاكم الأميركية ما زالت تحاول ردع التجاوزات التنفيذية، فإنها تواجه تحديات متزايدة. الإدارة الحالية تستخدم خطابًا تصعيديًا ضد القضاة، وتُتهم بعدم الامتثال الكامل لأوامرهم. وفي تطور مقلق، جرى احتجاز طلاب لمجرد كتابتهم مقالات رأي. حتى المحكمة العليا نفسها أصبحت تُصدر أحكامًا تعزز السلطة الرئاسية، كما في قرارها عام 2024 الذي منح الرئيس “حصانة مطلقة” عن أفعاله الرسمية — وهي سابقة لا تستند لنص دستوري صريح.

نظام الحزبين: من حاجز ضد التطرف إلى مسرّع له

لعقود، اعتُبر النظام الأميركي القائم على حزبين رئيسيين وسيلة لضمان الاعتدال السياسي، إذ يُفترض أن أي حزب يجنح نحو التطرف سيفقد الناخب الوسطي لصالح الحزب المنافس. لكن في ظل الاستقطاب المتزايد و”تفريغ” الأحزاب من سلطتها الداخلية، بات من الممكن لأقلية متطرفة أن تستولي على أحد الحزبين، كما فعلت حركة “ماغا” داخل الحزب الجمهوري. هذا الاستحواذ جعل من الحزب منصة قوية لتمرير أجندة شعبوية يمينية تُهدد الأسس الديمقراطية.

الانتخابات اللامركزية: من ضمانة للنزاهة إلى باب للتلاعب

اللامركزية التي لطالما كانت ميزة للانتخابات الأميركية — حيث تُدار الانتخابات على مستوى الولايات — تحولت الآن إلى ثغرة خطيرة. إذ يكفي أن يسيطر مسؤولون حزبيون على الانتخابات في عدد قليل من الولايات المتأرجحة لقلب النتائج. هذا السيناريو لم يعد نظريًا، فقد حاول ترامب بالفعل تغيير نتائج ولاية جورجيا في 2020. كما يُطرح اليوم عدد من القوانين التي تُقيد التصويت المبكر وتفرض متطلبات صارمة للهوية، ما يضيق الخناق على الناخبين.

 

الدستور الأميركي: نص مرن في زمن التأويل السياسي

يفتخر الأميركيون بأن دستورهم صعب التعديل، ما يمنع الاستبداد من التلاعب به. لكن الواقع أن التغييرات الجوهرية لا تأتي عبر التعديلات الرسمية، بل من خلال تفسيرات المحكمة العليا، التي أصبحت أكثر انحيازًا سياسيًا. المثال الأبرز هو قرار الحصانة الرئاسية لعام 2024. هذا يُظهر أن قوة الدستور لا تكمن فقط في نصوصه، بل في البيئة السياسية التي تُفسره وتطبقه.

 

حزب بلا منافذ: لماذا لا يوجد مفرّ داخل النظام؟

في دول مثل البرازيل، يمكن للسياسيين الابتعاد عن الشخصيات الشعبوية ببساطة عبر تغيير الحزب. أما في أميركا، فالنظام لا يتيح هذا الهروب. من دون شعار الحزب (مثل “الجمهوري”)، يصبح النجاح الانتخابي شبه مستحيل في معظم الدوائر. وبهذا، يستطيع ترامب تهديد أي مسؤول حزبي بفقدان مستقبله السياسي إن تجرأ على معارضته.

 

إصلاح أم تفكيك؟ خيارات صعبة لإنقاذ الديمقراطية

الاستقطاب الحزبي حول أدوات حماية الديمقراطية إلى أدوات تقويضها. لكن الحل لا يكمن في إلغاء هذه المؤسسات، بل في تعديلها: إصلاح نظام الانتخابات الحزبية، إعادة التفكير في دور المحكمة العليا، وتقييد الصلاحيات التنفيذية، مع سن قوانين تجعل النظام أكثر مناعة أمام الاستغلال الحزبي. فالرهان الآن ليس على الماضي المجيد، بل على قدرة الديمقراطية الأميركية على التكيّف — قبل أن يُغلق الباب تمامًا.

أقرأ أيضا:

تراجع ثقه المستهلكين الأمريكيين في يونيو وسط تصاعد المخاوف الاقتصادية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى