حوادث وقضايا

كارثة وادي ماجيا: عندما تحولت ليلة احتفالية إلى مأساة إنسانية

عاصفة قاتلة في سويسرا تكشف هشاشة الحياة أمام قوة الطبيعة

في إحدى زوايا جبال الألب السويسرية، وبين منحدرات خضراء تتخللها أنهار جليدية، تجمّع نحو مئتي شخص على ملعب كرة قدم صيفي في الهواء الطلق، فوق حافة ضيقة من الأرض عند ألف متر فوق سطح البحر. لم يكن أحد منهم يتخيّل أن ليلتهم تلك ستتحول إلى فصل مأساوي من كتاب الطبيعة الغاضبة. في زمن تتحدث فيه نشرات الأخبار عن أرقام ضحايا وتكاليف إصلاحات بملايين الدولارات، ننسى أن الكوارث لا تُقاس بالأرقام فقط، بل بما تتركه من ندوب في ذاكرة من نجا، ومن فُقد، ومن ظل شاهداً على الهشاشة المروّعة لحياتنا أمام عنف الطبيعة. هذه قصة عن قرار، عن تردد، عن احتمالات قاتلة وعن الطقس الذي لم يعد كما كان.

وادٍ من الجمال على حافة الخطر

يُعرف وادي ماجيا بأنه أحد أجمل المناطق الجبلية في سويسرا، بسحره البري وممراته المتعرجة بين الغابات والمياه الجليدية. وفي “كامبو درايوني”، الذي يوصف بأنه أجمل ملعب كرة قدم في البلاد، تجمّعت فرق من شتى القرى لخوض البطولة السنوية في أجواء من البهجة. لم تكن التوقعات تنذر بما سيحدث، رغم تحذيرات مناخية برتقالية أطلقتها هيئة الأرصاد السويسرية، إلا أن التفاصيل الدقيقة لما قد يحدث لم تكن متاحة. تلك الفجوة بين التحذير والتنفيذ، بين التوقع والواقع، كانت كفيلة بتحويل ليلة احتفالية إلى ليلة من الصدمة والدمار.

خلف ستار الحفل: القلق يهمس في أذن المنظّمين

بينما كان الحاضرون يرقصون ويهتفون لانتصار المنتخب السويسري على إيطاليا في بطولة أوروبا، كان دانييلي روتانزي، منظم البطولة، ينظر بقلق إلى تطبيق الطقس على هاتفه. فالتنبيهات تحوّلت من مستوى متوسط إلى أعلى درجة خطر (المستوى الرابع)، وهو ما لم تشهده المنطقة من قبل. روتانزي، وهو خبير تأمينات في حياته اليومية، أدرك حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، لكنه كان عالقاً بين قرارات متناقضة: إيقاف الفعالية قد يدفع المئات إلى الخروج في العراء، حيث الخطر أكبر، أو الاستمرار على أمل أن العاصفة ستنحرف. قرارات كهذه، في لحظات ضبابية، لا تُتخذ بسهولة، ولا تُنسى أبداً.

عدو خفي: علم الأرصاد في مواجهة الفوضى

في مقر الأرصاد الجوية بلوقارنو، كانت العيون تراقب الشاشات بانتباه. فالبيانات تشير إلى تصادم جبهات هوائية رطبة وساخنة من الجنوب مع هواء بارد من الشمال، ما قد يشكّل ظروفاً نادرة لعاصفة فائقة العنف. لكن التحدي الأكبر كان في عدم القدرة على تحديد مكان الهطول بدقة. فالعواصف الرعدية تتبع قوانين اضطرابية لا تخضع لنماذج تنبؤ تقليدية. وكما أن الدخان بعد شمعة ينطفئ يصعد بنعومة ثم يتعرّج في فوضى، فإن الأمطار الرعدية تسلك طرقاً لا يمكن التنبؤ بها إلا في نطاقات واسعة. وكانت وديان تيشينو، لسوء الحظ، ضمن هذا النطاق.

حينما سقطت السماء: من الحفل إلى حافة الجحيم

بحلول منتصف الليل، كانت السماء قد انفتحت تمامًا. المطر لم يتوقف، البرق لم يخفت، والرعد هز الجبال. ومن داخل الخيمة، حيث كانت فرقة موسيقية تعزف على منصة خشبية مرتجلة، بدأ البعض يشعر أن شيئًا ما ليس على ما يرام. لوريس فورستي، صديق روتانزي ومختص بالأرصاد، راقب المشهد بعين علمية مريبة وقلب يرتجف خوفاً. لقد تجاوزت العاصفة حدود المتوقع. كانت هناك “آلة رعدية” فوقهم، تمتص الهواء الساخن وتعيد تدويره في سلاسل لا نهائية من العنف الجوي. كان يعلم أن الأمر لم يعد طبيعيًا.

الأرض تتحرك: ساعة الانهيار

في الجبال المحيطة، كانت الأمطار الغزيرة تتساقط فوق ثلوج لم تذب منذ ربيع استثنائي البرودة. النتيجة كانت كارثة مركّبة: التربة المشبعة تحوّلت إلى وحش طيني يجر الأشجار والصخور والمنازل في طريقه. ومع الساعة الواحدة فجراً، تحوّل ما بدا كتدفق نهر صغير إلى انهيار جبلي هائل، دمّر قرية فونتانا بالكامل. الصخور والأشجار والبيوت انسحقت تحت طوفان من الركام والوحل. وكان من بين الضحايا خمسة أشخاص لقوا مصرعهم في لحظة، وآخرون قضوا وهم يحاولون الاحتماء في منازلهم.

القرار الأصعب: هل نخبر الناس أم نصمت؟

خارج الخيمة، رافق روتانزي الفني التقني ليرى شيئاً صادماً: خمس أمتار فقط كانت تفصلهم عن هاوية جديدة ظهرت فجأة حيث كانت هناك غابة. ملعب كرة القدم الذي بُني على أنقاض قديمة كان يتآكل تحت أقدامهم. لم يُرد أن يثير الذعر، فقرر مع فريقه إبقاء المعلومة سرًا، فقط في حال تمددت الكارثة. لكن في داخله، كانت لحظة الارتباك والذنب تمزقه. لقد قاد هذه الحفلة، والمسؤولية الأخلاقية لا تفارقه.

صباح الخراب: طائرات الإنقاذ تكشف الحقيقة

مع بزوغ الفجر، بدأت طائرات الهليكوبتر تحلق فوق الوادي. الصور كانت مروعة: أكثر من خمسين انهيارًا أرضيًا، جسور مقطوعة، قرى محطمة، وسكان مقطوعون عن العالم. تم إعلان حالة الطوارئ. ومعها بدأت عمليات الإنقاذ، التي استمرت لأيام، لمحاولة إنقاذ من يمكن الوصول إليه. في الوقت نفسه، كان المئات من العائلات في أماكن أخرى يبحثون عن أبنائهم دون أن يعلموا إن كانوا بين الأحياء.

النهاية المفتوحة: الخسائر والندوب المستمرة

سبعة أشخاص لقوا حتفهم، من بينهم شاب مفقود حتى اليوم، يُعتقد أنه غادر الخيمة ليبيت في سيارته. وعلى الرغم من أن المئات نجوا، فإن الشعور الجمعي بالخوف والنجاة والذنب لم يغادر السكان. الأسئلة لاحقت الجميع: هل كان من الممكن تفادي الكارثة؟ هل كانت التحذيرات كافية؟ وهل سنكون مستعدين في المرة القادمة؟ وحتى الآن، لا يوجد جواب نهائي.

مناخ يتغيّر، وجغرافيا تعيد رسم نفسها

ما حدث في وادي ماجيا لم يكن مجرد حادثة نادرة. العلماء يرون أن هذه الظواهر في طريقها لتصبح أكثر تكرارًا. ارتفاع درجات الحرارة، ذوبان الجليد، اختفاء الغابات بسبب الحشرات التي تتكاثر بفعل الصيف الحار، كلها عوامل تهيّئ الأرض للمزيد من الانهيارات. لكن الأخطر هو أننا ما زلنا نخطط لمستقبلنا كما لو أن المناخ لم يتغير.

العودة إلى الحياة رغم الخوف

في صيف 2025، أقيمت البطولة مرة أخرى. كان ذلك بمثابة إعلان عن الصمود، محاولة لاستعادة الحياة وسط الحطام. فتح بار “غروتو بوتزاسك” أبوابه، والناس عادت تدريجيًا. لكن الثقة، كما الطبيعة، تحتاج وقتًا طويلاً كي تُرمم. أما روتانزي، فبكى حين خرج من المروحية أخيرًا في اليوم التالي. لقد عاد إلى العالم، ولكن بعين أخرى، أكثر وعيًا، وأكثر هشاشة.

اقرا ايضا

تصاعد التوترات في سوريا: حوادث متكررة تستهدف الفنانين 

نيرة احمد

نيرة أحمد صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى