
في كل يوم بين الرابعة والسادسة صباحًا، كان الدكتور غرايم غروم، جرّاح العظام البريطاني، يستيقظ على صوت الانفجارات والصواريخ التي تهزّ نوافذ مستشفى ناصر بمدينة خان يونس جنوب قطاع غزة. هذا المستشفى، الذي بات أكبر منشأة طبية لا تزال تعمل في القطاع، كان بمثابة نقطة ارتكاز لواحدة من أكثر المهام الطبية صعوبة في تاريخ الطبيب الذي زار غزة أربعين مرة.
مع حلول الثامنة صباحًا، تبدأ عربات نقل المصابين بالتقاطر إلى غرف العمليات. عشرات الجرحى يوميًا، بينهم أطفال ونساء ورجال، ضحايا لقنابل تفتك بالأجساد وتحطم العظام وتمزق الأنسجة. يقول الدكتور غروم إن عدد المصابين في اليوم الواحد كان يتجاوز العشرين، وإن المشاهد التي عاينها تفوق أي تجربة طبية أو إنسانية خاضها سابقًا.
وجوه من تحت الركام: قصة آدم
من بين القصص التي ستبقى محفورة في ذاكرة الطبيب البريطاني، قصة الطفل الفلسطيني آدم النجار، البالغ من العمر 11 عامًا، والذي فقد تسعة من إخوته ووالده الطبيب في ضربة جوية استهدفت منزلهم في خان يونس. كان ذراعه على وشك البتر، لكن الفريق الطبي بقيادة غروم تمكّن من إنقاذه في اللحظات الأخيرة.
آدم، الذي يتحدث الإنجليزية بطلاقة وكان يبتسم ابتسامة “ملائكية” كما وصفها الطبيب، نُقل لاحقًا إلى إيطاليا للعلاج مع والدته. ورغم تحسن حالته الجسدية، ظل مصير صحته النفسية موضع تساؤل، إذ يقول غروم: “لم نستطع حتى البدء في تقييم الأثر النفسي لفقدانه كامل عائلته تقريبًا في ضربة واحدة.”
جراح لا تُحتمل ونجاة نادرة
لم تكن مأساة آدم استثناءً. الطفل يعقوب البالغ سبعة أعوام، كان واحدًا من طفلين فقط نجا من ضربة جوية قضت على أسرته، لكنه خرج منها بساقين محطمتين، وجروح مفتوحة في جسده الصغير. “كنت أكتب تقرير العملية الجراحية بينما كان الطفل ينادي أمه المتوفاة بصوت يقطع القلب”، يقول غروم.
وفي حالة أخرى، كانت أمّ تحتضن طفلتها ذات الأعوام الثلاثة عندما سقطت القنابل. الطفلة فقدت ساقيها، والأم أصيبت في مرفقيها وفقدت القدرة على استخدام ذراعيها، لكنها بدأت مؤخرًا استعادة القدرة في يد واحدة.
تحديات ما بعد الجراحة: خيام بدلاً من غرف التعافي
بعد العمليات، لا يذهب المرضى إلى غرف تعقيم أو مراكز إعادة تأهيل. بل يُنقلون إلى خيام مهترئة أو ملاجئ مؤقتة على الرمال. ضعف التغذية وسوء النظافة يضاعفان خطر العدوى، بينما تُحرم الإصابات من المتابعة الضرورية بسبب نقص الكوادر والمعدات.
ورغم هذه الظروف الكارثية، يصف غروم زملاءه من الطواقم الطبية الفلسطينية بأنهم “أبطال مجهولون”، يعملون في ظروف من الفقر والضياع، ويقدّمون خدمات صحية تفوق قدراتهم بكثير. “لولا تفانيهم، لكانت معدلات الوفيات والعجز مضاعفة عشرات المرات.”
الحصار الطبي: ممنوعات تحت طائلة العقوبة
رغم الحاجة الماسة، واجه غروم وفريقه حظرًا على إدخال معظم الأدوات الجراحية المتخصصة. أدوات جراحة الأوعية الدقيقة، والأجهزة الخاصة لتثبيت العظام، وغيرها من المعدات الحرجة، مُنعت من دخول غزة “تحت طائلة العقوبة والمصادرة والمنع من الدخول نهائيًا.”
هذا التضييق، الذي فُرض رغم التعاون الطبي القائم منذ عام 2009 عبر منظمة IDEALS التي أسسها غروم، يعكس حجم الحصار المضروب على القطاع، حتى في أكثر جوانبه إنسانية.
“هذا هو واقعنا”: الطواقم الطبية تصمد في وجه المأساة
كل الزملاء الفلسطينيين الذين عمل معهم غروم نزحوا من منازلهم، بعضهم مرارًا، والبعض فقد أقاربه أو معظم أفراد عائلته. ومع ذلك، كانوا يأتون إلى عملهم يوميًا من الخيام، نظيفين، مبتسمين، متسلحين بروح لا تُكسر.
إحدى الطبيبات كانت تنام يوميًا بالحجاب، خشية أن تُقتل في غارة وتُدفن دون “ستر”. ويقول غروم: “عندما يتحدثون عن فقدان أحبائهم، يقولون ببساطة: هذه حياتنا. سمعتها منهم مرارًا.”
ورغم الإشادات العالمية بـ”الصمود”، كثير منهم يرفض هذا الوصف. يقولون ببساطة: “نحن لا نريد أن نكون صامدين، فقط أوقفوا القصف.”
المجاعة كأداة حرب: أطباء يتهاوون من الجوع
مع دخول الحرب شهرها الـ21، لم يعد الجوع معضلة مجتمعية فقط، بل بات يهدد الطواقم الطبية نفسها. منظمة الأونروا حذّرت من أن أطباء وممرضين بدأوا يغمى عليهم من شدة الجوع والإنهاك.
رسائل أرسلها طبيب تخدير لغرايم، في 20 يوليو، وصفت كيف كان أطفاله الستة (أعمارهم بين سنتين و13 عامًا) يعانون من الضعف وفقدان الذاكرة والتشنجات بسبب الجوع. لم يكن يملك ما يطعمهم سوى ماء وملح.
“تعاطف بلا أفعال”: جولات دبلوماسية لا توقف الحرب
زار غروم بروكسل وبرلين وباريس، وتحدث إلى صناع القرار حول ما شاهده في غزة. “قوبلنا بالتعاطف، أحيانًا بالدموع، لكن الغالب كان العجز.”
وبعد شهاداته، اقترحت المفوضية الأوروبية تعليقًا جزئيًا لمشاركة إسرائيل في برنامج الأبحاث الأوروبي، كأول خطوة محتملة من نوعها، لكنها لا تزال بانتظار موافقة أغلبية الدول الأعضاء لتدخل حيز التنفيذ.
الختام: حين يصبح الطب شاهدًا على الإبادة
ما ينقله الدكتور غروم ليس مجرد مشاهد طبية. بل شهادة تاريخية على استخدام السلاح والحصار والتجويع لتدمير مجتمع بأكمله، أمام أعين العالم. في ظل صمت سياسي متراكم، تبقى كلمات الجراح البريطاني خنجرًا في ضمير الإنسانية:
“لم أرَ شيئًا مماثلًا قط. لا على مستوى الإصابات، ولا الجوع، ولا الكرامة الصامتة التي يتحلى بها زملائي من غزة.”