صحف وتقارير

دودة اللولبية تعود إلى الواجهة: تهديد قديم يطرق أبواب أمريكا من جديد

لطالما اعتُبرت معركة الولايات المتحدة ضد دودة اللولبية – الذبابة الطفيلية التي تفتك بالحيوانات عبر يرقاتها الآكلة للحم – واحدة من قصص النجاح الكبرى في تاريخ الصحة العامة والطب البيطري. فمنذ خمسينيات القرن الماضي، تمكن العلماء من ابتكار برنامج تعقيم جماعي للذباب مكّن من دفع حدود انتشار الطفيلي إلى جنوب القارة، وصولًا إلى برزخ دارين في بنما. لكن التطورات الأخيرة تعيد القلق إلى الواجهة.

فقد شُخصت حالة نادرة في ولاية ماريلاند، تزامنًا مع تزايد الإصابات في أمريكا الوسطى والجنوبية، لتعيد الحديث عن هشاشة الإنجازات السابقة. ومع اقتراب الإصابات من الحدود الأمريكية وعودة التهديد لقطعان الماشية، تتضاعف المخاوف في ظل خفض الإنفاق على الأبحاث والتعاون الدولي خلال إدارة ترامب السابقة. أمام هذا المشهد، يتساءل الخبراء: هل تقف الولايات المتحدة على أعتاب أزمة زراعية وصحية جديدة؟

الحالة الأولى في ماريلاند: إنذار مبكر

أعلنت السلطات الصحية في أغسطس عن تشخيص إصابة بشرية بدودة اللولبية في ولاية ماريلاند بعد عودة المريض من رحلة إلى السلفادور.

ورغم تأكيد الأطباء أن الخطر على الصحة العامة في أمريكا لا يزال منخفضًا، فإن هذه الحالة وُصفت بأنها “حالة رصد” قد تعكس تصاعدًا في انتشار الطفيلي بالبلدان المجاورة. ويشير خبراء الطب الاستوائي إلى أن مثل هذه الإصابات قد تكون جرس إنذار أكثر من كونها خطرًا مباشرًا، لكنها تكشف عن ثغرات محتملة في منظومة المراقبة.

تاريخ طويل من المعاناة والإنجاز

 

قبل القضاء عليها محليًا، سببت دودة اللولبية أضرارًا هائلة للاقتصاد الزراعي الأمريكي في النصف الأول من القرن العشرين. فقد كانت تتسبب في نفوق أعداد كبيرة من الماشية، ما أدى إلى خسائر بملايين الدولارات. نقطة التحول جاءت في خمسينيات القرن الماضي عندما طور العلماء تقنية مبتكرة تقوم على تعريض بويضات الذباب لجرعات منخفضة من الإشعاع، ما يجعل الذكور عقيمة.

ومع كون الإناث لا تتزاوج إلا مرة واحدة، أدى إطلاق الذباب العقيم على نطاق واسع إلى تراجع أعداد الطفيلي بشكل جذري. نجاح التجربة دفع الولايات المتحدة إلى التعاون مع بنما ودول المنطقة لمنع عودة الطفيلي شمالًا، لتصبح التجربة مثالًا عالميًا على التعاون الدولي في مجال الصحة البيطرية.

عودة الخطر من الحدود الجنوبية

رغم نجاح تلك الاستراتيجية، بدأت مؤشرات التهديد في الظهور مجددًا منذ عام 2022، حيث تم تسجيل نحو 89 ألف إصابة في الحيوانات بأمريكا الوسطى خلال ثلاث سنوات فقط. ومع اقتراب الحالات من الحدود المكسيكية، حذرت وزارة الصحة الأمريكية من إمكانية تحول الطفيلي إلى تهديد للأمن القومي إذا وصل إلى المزارع الأمريكية، خاصة في ولايات مثل تكساس التي تعتمد على تربية الأبقار بكثافة. كما تشير بعض التقديرات إلى أن الحيوانات البرية المهاجرة قد تكون ناقلًا إضافيًا للذباب عبر الحدود، وهو ما يزيد من صعوبة السيطرة على انتشاره.

تهديد للصحة الحيوانية أكثر من البشرية

على الرغم من بشاعة الطفيلي وتأثيره على الإنسان، إلا أن الخبراء يجمعون على أن الخطر الأكبر يتمثل في قطاع الثروة الحيوانية. فالإصابات البشرية نادرة نسبيًا ولا تنتقل بسرعة بين الأفراد، بينما يمكن أن تؤدي العدوى في الماشية إلى كوارث اقتصادية إذا لم تُعالج بسرعة. ويركز الباحثون حاليًا على اختبار أدوية مضادة للطفيليات، مثل الإيفرمكتين، لمعرفة ما إذا كانت قادرة على الحد من انتشار العدوى في الحيوانات، رغم غياب أي لقاحات أو علاجات معتمدة حتى الآن.

خفض التمويل وارتباك التعاون الدولي

من أبرز التحديات التي تواجه الولايات المتحدة اليوم هو تراجع التمويل المخصص للأبحاث والبرامج الدولية لمكافحة الطفيلي خلال إدارة ترامب، حيث أُغلقت بعض المرافق البحثية أو خُفضت ميزانياتها. ويرى الخبراء أن غياب التمويل المستقر يقوض جهود التعاون مع بلدان أمريكا الوسطى، التي تعد خط الدفاع الأول ضد عودة الدودة إلى الأراضي الأمريكية. هذا التراجع يعكس خللًا في إدراك الترابط بين الصحة العامة والأمن القومي، ويهدد بإضعاف منظومة السيطرة التي بُنيت على مدار عقود.

برامج جديدة لمكافحة الطفيلي

استجابة للتطورات الأخيرة، أعلنت وزارة الزراعة الأمريكية عن خطة طوارئ تتضمن إعادة فتح مرفق لتربية الذباب العقيم في تكساس، إلى جانب تخصيص 850 مليون دولار لمكافحة الدودة. وتشمل الخطة توسيع برامج الرصد عبر نصب مصائد على طول الحدود الجنوبية، إضافة إلى تشديد فحص الماشية المستوردة والمعدة للذبح. هذه الإجراءات تهدف إلى منع دخول الطفيلي إلى السوق الأمريكية، في محاولة لتجنب أزمة قد تهدد أحد أكبر القطاعات الاقتصادية في البلاد.

التحدي المستمر: بين الوقاية والاستدامة

رغم الخطط الطموحة، يظل السؤال الأكبر مطروحًا: هل يمكن للولايات المتحدة أن تحافظ على إنجازاتها في مواجهة هذا الطفيلي على المدى الطويل؟ بعض العلماء يحذرون من أن الاعتماد على تقنيات عمرها عقود، مثل إطلاق الذباب العقيم، قد لا يكون كافيًا إذا لم يُدعم ببرامج بحثية متطورة وبتعاون دولي دائم. فالحدود الجغرافية لم تعد عائقًا أمام انتشار الأمراض، والتغيرات المناخية وحركة التجارة تعزز احتمالات عودة الأوبئة المنقرضة.

دروس أوسع من قضية دودة اللولبية

القضية تتجاوز مجرد طفيلي يهدد الماشية. إنها تكشف عن هشاشة منظومة الصحة العامة في مواجهة التهديدات العابرة للحدود، وعن الترابط الوثيق بين صحة الإنسان والحيوان والاقتصاد. كما تؤكد أن الانسحاب من برامج التعاون الدولي قد يكلّف الولايات المتحدة باهظًا، سواء اقتصاديًا أو سياسيًا. في النهاية، ربما تمثل عودة الخطر فرصة لإعادة التفكير في مفهوم الأمن الصحي باعتباره عنصرًا لا يقل أهمية عن الأمن العسكري أو الاقتصادي.

اقرا ايضا

روسيا: تدمير 27 مسيرة أوكرانية خلال ساعات فوق أراضيها  

نيرة احمد

نيرة أحمد صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى