القاتل المأجور الذي أراد أنا يصبح نجما غنائياً

في بداية عام 2016، خرج أفنير حراري من أحد سجون تل أبيب، معلناً أنه سيطوي صفحة الماضي. الرجل الذي اشتهر في أوساط المافيا الإسرائيلية بلقب «المدمّر»، بعد أن قضى ما يقرب من أربعين عاماً من أصل واحد وستين وراء القضبان، بدا هذه المرة عازماً على ترك العنف والدماء خلفه. وبعينين لامعتين وصوت يحمل شيئاً من الحزن، صرّح للتلفزيون: «كنت مجرماً في الماضي، أما الآن، فالحمد لله، أنا موسيقي».
الطائر المغرّد خلف القضبان
خلال آخر فترة سجنه، وجد حراري نفسه غارقاً في عالم آخر؛ عالم الموسيقى. فقد بدأ يؤدي أغانٍ على الطراز الشرقي المعروف في إسرائيل باسم الموسيقى المِزراحية، وهو أسلوب غنائي مستمد من تقاليد المهاجرين اليهود من العراق، اليمن، مصر والمغرب. كان صوته عذباً إلى درجة أن زملاءه أطلقوا عليه لقب «العندليب». وعندما خرج إلى الحرية بعد 37 شهراً من السجن بتهمة إطلاق صاروخ مضاد للدروع على منافس له، أطلق أغنيتين تحملان رسائل توبة ورغبة في بداية جديدة، إحداهما بعنوان «صفحة جديدة».
لكن الحلم لم يستمر طويلاً. فبعد 17 يوماً فقط من الإفراج عنه، دوّت سلسلة انفجارات غامضة في تل أبيب، استهدفت أشخاصاً من بينهم فنانة بارزة رفضت إذاعة أغانيه. وهنا بدأ التساؤل: هل عاد «المدمّر» إلى سابق عهده، ولكن هذه المرة تحت ستار الطموح الفني؟
بين الفن والجريمة
ولد حراري عام 1954 في عائلة موسيقية شهيرة، حتى أن البعض شبّهها بـ«عائلة جاكسون» الإسرائيلية. غير أن مسيرته اتخذت مساراً مغايراً. فبينما كان يغني في النوادي الليلية «الشرقية» المحظورة آنذاك، انجذب في الوقت نفسه لعالم الجريمة. بعد حرب أكتوبر 1973، ارتكب خطأً بسيطاً عندما سرق سيارة من مقر عسكري «للتسلية» كما قال، لكن ذلك فتح له أبواب السجون، وهناك كوّن صداقات مع عائلات الجريمة الكبرى.
في أواخر السبعينيات، أصبح سائقاً لعمليات سطو تستهدف تجار مجوهرات عرب في الضفة الغربية. ومع بداية الثمانينيات، كان منغمساً تماماً في عالم المافيا. ومع كل اعتقال، كان يقضي سنوات ثم يعود ليحاول الغناء من جديد، لكن الجريمة كانت دوماً أقرب وأسهل من الفن. حتى عندما حاول العمل حلاقاً بعد حصوله على شهادة رسمية داخل السجن، سرعان ما عاد إلى طريق العصابات، منضمّاً إلى عائلة «أبرجيل» الإجرامية التي سيطرت على تجارة المخدرات.
«رجل الصواريخ»
اشتهر حراري باستخدام قاذف الصواريخ المحمول على الكتف M72 LAW في تنفيذ عمليات الاغتيال ضد خصوم المافيا. لذلك لقّبته الصحافة بـ«رجل الصواريخ». كان يدير عملياته كما لو كانت عروضاً مسرحية، بحرفية عالية وحرص على ترك «صورة مثالية» بلا أدلة. ورغم تعدد الاعتقالات، ظل يتأرجح بين شخصيتين متناقضتين: الفنان الرقيق والقاتل بلا رحمة.
في التسعينيات، دخل في حلقة مفرغة من السجن والخروج، الحفلات الليلية والاغتيالات. وعندما حاول عام 2000 العودة للغناء بجدية، وجد نفسه رهن الإقامة الجبرية ليلاً، ما حطم أي فرصة لظهوره على المسارح. لاحقاً، أُدين بمحاولة اغتيال أحد زعماء المافيا عبر إطلاق صاروخ على منزله، وحُكم عليه بـ37 شهراً أخرى خلف القضبان.
أحلام متجددة
لم يستسلم حراري لفكرة أنه يستطيع أن يبدأ من جديد. ففي السجن، حاول ابتكار تطبيق على هواتف آيفون لمساعدة المرضى في المستشفيات، بل واستغل إجازاته لإحياء حفلات زفاف حيث كان يحظى بمعاملة النجم. وعندما خرج عام 2016، كان يعتقد أن عصر الموسيقى المِزراحية قد نضج أخيراً ليستقبله كفنان. لكنه اكتشف سريعاً أن الساحة تغيرت: المنافسة باتت عبر «يوتيوب» و«إنستغرام»، بينما هو ما زال يوزّع أقراصاً مدمجة.
فشلت ألبوماته، ومعها تحطّم حلمه، ليعود مجدداً إلى مسرح الجريمة، هذه المرة بدافع الانتقام ممن رفضوا دعمه فنياً. من بينهم الفنانة الشهيرة مرجليت تزانعني التي رفضت بث أغانيه، لتتعرض سيارتها بعد ذلك لتفجير مروّع.
السقوط الأخير
في أواخر 2016 وبداية 2017، تورط حراري في سلسلة تفجيرات وتهديدات، بينها محاولة اغتيال لاعب كرة القدم كوبي موسى بزرع قنبلة في سيارته. الشرطة التقطت مكالمات مشفّرة بينه وبين أحد معاونيه، واستخدمت كلمة «فراولة» كدليل على نية استخدام متفجرات. في النهاية، أدين بتهم الشروع في قتل والتآمر، وحُكم عليه بالسجن 11 عاماً ونصف في سجن «ريمو نيم» شديد الحراسة.
من وراء القضبان إلى «تيك توك»
ورغم المنع الرسمي من إجراء مقابلات صحفية، وجد حراري وسيلة جديدة لفرض صوته على الساحة: وسائل التواصل الاجتماعي. باستخدام هواتف مهربة، بدأ يسجل مقاطع صوتية تُنشر عبر «تيك توك»، حيث يمزج بين الغناء والنصائح الحياتية. حتى أنه ظهر في مقطع مُصمَّم بالذكاء الاصطناعي يحرك شفتيه فوق صورة ثابتة. وبعبارات أقرب إلى الاعتراف المتأخر، قال: «في النهاية، الجريمة لا تنفع حتى لو نجحت. الكون يرفضها».
حصدت مقاطعه آلاف الإعجابات وأكثر من 20 ألف متابع. بعضهم عرض عليه المال، وآخرون دعموه معنوياً. وفي عام 2023، وُصف في تقرير تلفزيوني بأنه «مجرم تحول إلى نجم على تيك توك»، ما أدى إلى وضعه في الحبس الانفرادي لفترة.
الحلم المؤجل
اليوم، في عمر السبعين، ما يزال حراري متمسكاً بحلمه أن ينجح كفنان. يشارك في ورش علاج الغضب داخل السجن، ويستعد لمثوله أمام لجنة إفراج مشروط قد تمنحه فرصة الخروج قبل إكمال محكوميته. وفي كل ليلة، بينما يسود صمت الزنازين، يعلو صوته الشجي يغني للحب والفقد والأمل، فيحظى بتصفيق زملائه السجناء.
وهكذا يبقى أفنير حراري، الرجل الذي عاش حياته ممزقاً بين «العندليب» المغني و«المدمّر» القاتل، مثالاً حيّاً على تناقضات النفس البشرية، وعلى صراع لا ينتهي بين الظلام والرغبة في النور.