الوكالات

“صفقة الموت”.. جثث تتحول إلى أوراق تفاوض في حرب غزة

في الوقت الذي تستعد فيه إسرائيل لإطلاق سراح عشرين أسيراً حياً من غزة، تواجه مهمة أكثر إيلاماً: استعادة جثث قتلاها من القطاع المحاصر. فبعد عام على اندلاع الحرب، لم تعد المعركة تقتصر على الأرض أو الرهائن الأحياء، بل امتدت إلى ساحة أكثر قتامة حيث تحوّل الموتى أنفسهم إلى أدوات تفاوض سياسي.

تقرير صحيفة فايننشال تايمز يرسم صورة قاتمة لحرب تُدار فوق الأرض وتحتها، بين عقيدة إسرائيلية تقدّس “استعادة الجسد”، وحسابات فلسطينية ترى في الجثامين ورقة ضغط، فيما يقف مئات العائلات على ضفّتي النزاع بين انتظار جثمانٍ أو بصيص أمل في بقاءٍ حي.

صراع تحت الأرض وفوقها يعكس مأساة إنسانية بين قدسية الجسد الإسرائيلي وورقة الجثامين الفلسطينية.

الهوس الإسرائيلي بـ“استعادة الجسد”

 

منذ هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، الذي أسفر عن أسر 250 شخصاً، تحوّل جمع الرفات إلى هاجس وطني في إسرائيل. وحدات خاصة اقتحمت أنفاق غزة لجمع عينات جثث لتحليل الحمض النووي لاحقاً، بينما نبشت جرافات مقابر فلسطينية بحثاً عن جثث مفقودة.

تعتبر المؤسسة العسكرية أن إعادة الجثامين “عهداً مقدساً” مع المجتمع، تماماً كما لا تزال إسرائيل تبحث عن رفات الجاسوس إيلي كوهين منذ إعدامه في دمشق عام 1965. وقد سمحت سوريا حديثاً بإعادة أرشيف متعلق به عام 2025، في محاولة لتخفيف التوترات مع تل أبيب.

 

معادلة الموت في “صفقة ترامب”

 

ضمن خطة السلام التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب والمكونة من 20 بنداً، وافقت حماس على تسليم جثامين 28 رهينة متوفاة مقابل إفراج إسرائيل عن جثث 15 فلسطينياً لكل إسرائيلي.

هذه المعادلة المأساوية عكست حجم الفارق في الكلفة البشرية بين الجانبين. ورغم إعلان نتنياهو أن إعادة الجثامين “واجب مقدس”، فإن مصادر إسرائيلية كشفت أن المهلة المحددة لاستلامها ستنقضي قبل استكمال العملية، ما دفع لتشكيل لجنة خاصة بمشاركة مصر وقطر وتركيا والولايات المتحدة لتعقب المفقودين.

صفقة تبادل جثامين غير متكافئة تكشف عمق الفجوة الإنسانية بين إسرائيل والفلسطينيين ضمن خطة ترامب للسلام

“مقابر الأرقام”.. الفلسطينيون في موتٍ بلا هوية

 

على الجانب الآخر، تحتجز إسرائيل أكثر من ألفي جثمان لفلسطينيين، بينهم مئات من الضفة وغزة، تُدفن في ما يُعرف بـ“مقابر الأرقام” دون أسماء، وتُسجل فقط أرقام على شواهد قبورهم.

تُخزَّن معظم هذه الجثامين في معهد أبو كبير للطب الشرعي في تل أبيب، حيث تُعامل كملفات سرّية وأوراق تفاوضية محتملة. وبهذا، يُحرم آلاف الأهالي من دفن أبنائهم أو زيارة قبورهم، في مشهد يجسد استمرار المعاناة حتى بعد الموت.

 

الموتى كورقة مساومة

 

تحوّلت الجثامين إلى أدوات ضغط سياسي وديني بين حماس وإسرائيل. فبينما تراها الفصائل الفلسطينية “حقاً وطنياً مقدساً”، يعتبرها اليمين الإسرائيلي جزءاً من عقيدة الدولة، في حين يعارضها الليبراليون أمام المحكمة العليا.

خلال السنوات الماضية، تفاوض الطرفان عشر سنوات على جثتي الجنديين الإسرائيليين اللذين قتلا في حرب 2014. وفي 2024، تمكن الجيش من العثور على جثمان أورون شاؤول وإعادته لأسرته، بينما لا يزال حضر غولدين مفقوداً، ما دفع والدته للمطالبة بعدم الإفراج عن أي أسير قبل استعادته.

عقد من المفاوضات حول جنديين مفقودين يرمز لاستمرار جراح حرب لم تندمل بين إسرائيل وغزة

خوارزميات تبحث عن القبور

 

تكلف إسرائيل وحدتين متخصصتين بمهمة البحث عن الجثث:

وحدة “يشير” التي تعمل في الميدان أثناء القتال، ووحدة “إيتان” التي تستخدم خوارزميات متطورة لتحليل صور الطائرات المسيّرة واكتشاف القبور الجديدة.

غير أن أحد عناصر الاحتياط أقرّ للصحيفة بأن “التكنولوجيا لم تنجح في تمييز شيء في غزة، فالقبر والجثة في كل مكان”. الواقع فاق قدرات الآلة، تاركاً البشر أمام فوضى الموت المفتوح.

 

نهاية مفتوحة على المأساة 

 

بالنسبة لعائلات الإسرائيليين الذين تأكد مقتلهم، يبقى الدفن الخاتمة الوحيدة الممكنة، فالموت يمنحهم على الأقل يقينًا بعد انتظارٍ طويل. لكن خلف كل جثمان يعود، هناك آخر يظل مفقودًا في العتمة، بين أنقاض غزة ومكاتب التفاوض. وفيما يُعلن البعض انتهاء الحرب، تتردد صرخات الأمهات في الجانبين كأنها الدليل الوحيد على أن الصراع لم يهدأ بعد. فحين تتحول الجثامين إلى أدوات سياسية، لا تنتهي الحرب بالهدنة، بل تواصل حياتها في ذاكرة من لم يجدوا بعد من يودّعونه.

اقرأ أيضاً

هيئة رقابية بريطانية: بوريس جونسون خالف القواعد التي تمنع استغلال النفوذ بعد مغادرته المنصب

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى