«المال مقابل النفوذ».. فايننشال تايمز تكشف كيف كافأت إدارة ترامب كبار مانحيه

كشف تحقيق موسّع لصحيفة «فايننشال تايمز» أن العشرات من كبار المانحين للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، سواء أفرادًا أو شركات، جنوا فوائد مباشرة من قرارات وسياسات أُقرت خلال ولايته الثانية. التقرير لا يقدّم أدلة جنائية على فساد، لكنه يرسم صورة مثيرة للجدل عن تداخل المال بالقرار السياسي في واشنطن. فبحسب الصحيفة، فإن أكثر من 30 جهة قدّمت تبرعات تجاوزت 116 مليون دولار لصناديق وجماعات مرتبطة بترامب، بينها MAGA Inc وصندوق تنصيبه، وحصدت بعدها إعفاءات أو تسهيلات تنظيمية أو قرارات لصالحها. هذا النمط، كما يحذر الخبراء، يعكس اتساع دائرة النفوذ المالي داخل الإدارة الأمريكية ويثير أسئلة أخلاقية حادة حول حدود العلاقة بين السلطة والمال، وسط مناخ سياسي يشهد انقسامًا حادًا بين المصالح الاقتصادية والمبادئ الديمقراطية.
شبكة المانحين: من الدعم المالي إلى المكاسب المباشرة
تفيد بيانات التحقيق أن أكثر من 92 مليون دولار من تبرعات المانحين تدفقت بعد الانتخابات، خلال فترة أعادت فيها الإدارة توزيع النفوذ داخل الأجهزة الفيدرالية. المستفيدون لم يكونوا في قطاع واحد، بل امتدوا من شركات التبغ إلى منصات العملات الرقمية ومؤسسات التأمين الصحي. بعض القرارات، مثل إغلاق تحقيقات رقابية أو تأجيل إجراءات قضائية، جاءت في أعقاب التبرعات بأسابيع قليلة، ما أعطى انطباعًا بوجود «مقايضة غير معلنة» بين الدعم المالي والمصلحة التنظيمية. ورغم غياب أدلة قضائية مباشرة، فإن الأرقام الضخمة والتوقيت المتقارب يثيران تساؤلات حول ما إذا كانت القرارات نابعة من اعتبارات مهنية بحتة أم محسوبة لمكافأة داعمين سياسيين يملكون القدرة على التأثير في مسار القرارات التنفيذية.
العملات الرقمية.. بوابة النفوذ الجديد
برزت صناعة التشفير كإحدى أبرز المستفيدين من إدارة ترامب الثانية. فقد تبرع توأما وينكلفوس، مؤسسا شركة Gemini، بملايين الدولارات لصناديق موالية للرئيس، لتُغلق لاحقًا تحقيقات مطولة كانت تطال شركتهما من جهات رقابية. وبالمثل، حصلت شركات تابعة لمستثمري Andreessen Horowitz على موافقات إدارية ميسّرة بعد تبرعات كبيرة. أما منصات Coinbase وCrypto.com فشهدت تخفيفًا واضحًا في الضغوط التنظيمية بعد تدفق مساهماتها. حتى المستثمر الأجنبي جاستن صن، رغم منعه قانونيًا من التبرع المباشر، استفاد من علاقات مالية مع مؤسسات مرتبطة بعائلة ترامب مكنته من حضور دوائر القرار. هكذا تحولت العملات الرقمية إلى أداة تأثير سياسي غير تقليدية، تربط بين التمويل الافتراضي والمكاسب الواقعية في واشنطن.


إعفاءات وعفو رئاسي.. مكافآت تتجاوز الاقتصاد
لم تقتصر المكاسب على شركات التقنية؛ فبعض المانحين تلقوا مزايا مباشرة من قرارات رئاسية. تريفور ميلتون، مؤسس شركة السيارات الكهربائية Nikola، تبرع بمبالغ كبيرة ثم حصل على عفو بعد إدانته بالاحتيال، لتُغلق لاحقًا قضايا مدنية ضده. أما إليزابيث فاغو التي تبرعت بمليون دولار، فقد تبع تبرعها عفو عن ابنها المدان بقضايا مالية. كما نالت شركات التبغ مكافأة تنظيمية بعد إلغاء خطة لحظر نكهات السجائر، بينما حصدت UnitedHealthcare ملايين من تحسين تعويضات برامج Medicare Advantage عقب دعمها المالي. هذه الوقائع، رغم تفسيرها الرسمي كقرارات «فنية»، تعزز الانطباع بوجود علاقة طردية بين حجم التبرع وسرعة الامتياز الإداري، ما يثير جدلاً واسعًا حول نزاهة القرار الرئاسي وشفافيته.

حدود الأخلاق السياسية: بين المظهر والمضمون
يرى خبراء القانون أن حجم وسرعة القرارات بعد التبرعات يعكسان خللاً في مبدأ الشفافية والمساءلة. المحامية فيرجينيا كانتر وصفت الظاهرة بأنها «دفعة مقابل مصلحة» ولو على مستوى المظهر العام، مؤكدة أن تكرار الأنماط يجعل النفي الرسمي غير مقنع. ورغم إصرار إدارة ترامب على أن قراراتها تستند إلى المصلحة العامة، إلا أن بعض القضايا أُغلقت في ظروف توصف بأنها «ملتبسة». ومع غياب أدلة جنائية مباشرة، يبقى السؤال الأخلاقي قائمًا: هل يمكن أن تكون السياسة في واشنطن منفصلة عن التمويل في ظل نظام انتخابي يعتمد على المساهمات الخاصة كمحرك رئيسي للحملات؟ الخبراء يحذرون من أن تجاهل هذه الأسئلة يقوّض ثقة الناخبين في المؤسسات الديمقراطية.
عصر جديد من المقايضة بين المال والسلطة
ما يميز هذه المرحلة ليس فقط تعدد المستفيدين، بل تداخل المال السياسي مع قطاعات ناشئة لم تكن تقليديًا ضمن دوائر النفوذ مثل التشفير والتقنيات الطبية. حجم الأموال التي جُمعت لصناديق ترامب، والتي تجاوزت أرقامًا قياسية، خلق بيئة تسمح للمصالح الصناعية بالتأثير السريع على القرارات التنفيذية. في المقابل، تراجع التدقيق الرقابي وبرزت شبكات تجارية متصلة بعائلة الرئيس، ما زاد من ضبابية الحدود بين المنفعة الاقتصادية والمصلحة الوطنية. ومع غياب قواعد صارمة تفصل بين التبرع والدعم الإداري، يبدو المشهد الأمريكي في طريقه إلى إعادة تعريف معنى النفوذ السياسي في عصر التمويل الضخم، وهو ما يستدعي مراجعة عميقة لآليات ضبط العلاقة بين رأس المال والحكم.
الشفافية.. التحدي الحقيقي لثقة الجمهور
يبقى الأهم في هذا الملف هو تأثيره على ثقة الأمريكيين في نزاهة القرار الحكومي. فحتى في غياب شبهة الفساد المباشر، يظل الشعور العام بوجود «صفقات رمزية» بين المتبرعين وصناع القرار كفيلًا بإضعاف صورة الدولة في الداخل والخارج. ما تحتاجه واشنطن ليس فقط قوانين رقابية، بل ثقافة سياسية تُعيد تعريف العلاقة بين المال والسياسة، وتضمن أن يبقى القرار العام محصنًا من النفوذ الخاص. فالفاصل بين الشرعية والمظهر قد يحدد مستقبل الديمقراطية الأمريكية ذاتها، في وقت تتزايد فيه التحديات الداخلية والخارجية وتتقاطع فيه المصالح المالية مع أعلى مستويات السلطة التنفيذية بشكل غير مسبوق.



