الوكالات

على الأقل هنا لا أسمع الانفجارات”: تايلانديون يفرّون من جحيم المعارك مع كمبوديا بحثًا عن أمان مؤقت

 

مع انفجار أولى القذائف في سماء قريتها، أدركت “مانيرات كوت-بانديت” أن التحذيرات التي سمعها سكان الحدود على مدى أسابيع لم تكن تهويلًا إعلاميًا، بل مقدمة لكابوس حقيقي. “كنا نتابع الأخبار كل يوم ونتساءل: هل هذا هو اليوم؟”، تقول وهي تتحدث من داخل مركز إيواء مؤقت نُصِبَ على عجل في إحدى بلديات إقليم سورين، شمال شرق تايلاند.

الخوف تحول إلى واقع عندما دوت أصوات المدفعية الثقيلة صباح الخميس، في اليوم الأول من أعنف اشتباكات حدودية بين تايلاند وكمبوديا منذ أكثر من عقد. ما لبث أن تكرر المشهد في عشرات القرى التايلاندية الحدودية، حيث فرّ أكثر من 130 ألف مدني من بيوتهم في ساعات، تاركين خلفهم منازلهم وأعمالهم وحياتهم اليومية، في مشهد يعيد إلى الأذهان ذكريات الحروب المنسية في جنوب شرق آسيا.

فوضى اللحظة الأولى: “تعالوا بسرعة!”

في قرية مانيرات، وصلت الرسالة عبر مكبر صوت عمومي: “استعدوا للإخلاء فورًا”. كان الوقت بين الثامنة والتاسعة صباحًا. هرعت العائلات إلى سياراتها، الأطفال أُخرجوا من المدارس، والأمهات يصرخن بين البيوت: “يلا بسرعة!”. مانيرات حملت أطفال إخوتها، وأقلّت الأسرة كاملة في شاحنة صغيرة.

“شعرنا بالخوف، لكن ما في وقت. كان علينا أن نتماسك”، تروي وهي تجلس على حصيرة من القش تحت سقف معدني مع مئات من الفارين مثلها.

قرية مانيرات

مراكز الإيواء: الأمان المؤقت

في ظل هذه الظروف، أصبح الأمان النسبي هو كل ما يتطلع إليه هؤلاء. السيدة “إن تشانثاتب”، 72 عامًا، تعيش في منطقة “نام يوان” منذ ولادتها، لكنها تقول إنها لم تسمع في حياتها دوي القصف بهذا القرب. “الصوت كان صاخبًا جدًا، لم أتمكن حتى من جمع أغراضي. حملني ابني بيديه وأدخلني السيارة”، تضيف.

الآن، تنام على الأرض، لكنها تقول: “هنا لا أسمع الانفجارات. على الأقل هنا يمكنني أن أرتاح قليلًا”.

خسائر بشرية ودمار واسع

بحسب السلطات التايلاندية، بلغ عدد القتلى في صفوفها 15 شخصًا، بينهم 14 مدنيًا. وعلى الجانب الكمبودي، أكدت مصادر محلية مقتل مدني واحد في محافظة أودار مينشي، دون إعلان رسمي من الحكومة المركزية. الصور التي نشرتها وسائل الإعلام تُظهر منازل مدمّرة ونوافذ محطمة جراء القصف المتبادل، بينما تبث شاشات التلفزيون في مراكز الإيواء تحديثات مستمرة وسط وجوم الأهالي.

حياة معلّقة: العمل توقف والعائلات تنتظر

مانيرات كانت تعمل في مصنع دقيق مع شقيقاتها. المصنع مغلق الآن، والرواتب مجهولة. “لا نعرف إذا كنا سنتقاضى أجر هذا الشهر. كل شيء معلق”، تقول.

لكنها تشير أيضًا إلى الخسائر الأعمق: “كنا نتعامل مع الكمبوديين كجيران. نتبادل المنتجات الموسمية. يتحدثون التايلاندية، ويدخلون قريتنا كأنهم أهلها. ما يحدث الآن لا يشبه أي شيء عشناه من قبل”.

من مواقع سياحية إلى مناطق نزاع

اثنتان من العاملات البلديّات في مركز الإيواء، فوسيتا بوتارات وكامونوان هومسوب، كانتا تزوران المواقع الأثرية على الحدود في رحلات مدرسية قبل سنوات. “لم نتخيل أن تتحول هذه الأماكن الجميلة إلى ساحات قتال”، تقول فوسيتا، بينما تشرف على توزيع الأغطية والوجبات.

مركز إيواء، فوسيتا بوتارات

معضلة التفاوض: “لو كان ممكنًا، لما وصلنا إلى هنا”

بالنسبة ، فكرة وقف إطلاق النار تبدو بعيدة. “إذا كان بالإمكان الاتفاق، لما وصلنا إلى هنا من البداية”، تقول بيأس، ثم تضيف: “ما نملكه الآن هو الأمل فقط. نريد أن تعود الحياة لطبيعتها، أن نعود إلى بيوتنا، أن يعود أطفالنا للمدرسة”.

اقتصاد الحدود في مهب النار

 

الحدود التي كانت شريان تبادل تجاري وشعبي بين الشعبين، تحولت إلى خط ناري مغلق. توقف كل شيء: بيع الفطر في موسم الحصاد، شراء الخضار، وحتى الزيارات العائلية. الانفجار لن تكون تبعاته فقط إنسانية، بل اقتصادية أيضًا، خصوصًا في القرى التي تعتمد على السوق الحدودي لكسب قوت يومها.

في الخلفية: أزمة قيادة وتعقيد إقليمي

الاشتباكات تتزامن مع اضطرابات سياسية داخلية في تايلاند، حيث تواجه رئيسة الوزراء بايتونغتارن شيناواترا تحقيقًا قد يؤدي إلى إقالتها، بعد تسريب محادثة مثيرة للجدل مع الزعيم الكمبودي السابق. التعقيد السياسي الداخلي يُضعف الجبهة الدبلوماسية، ويزيد من احتمال تفاقم الأزمة، في غياب وسطاء قادرين على فرض تهدئة.

“نريد فقط أن نعيش بسلام”

بالنسبة لكثير من النازحين، مثل مانيرات وإن، فإن المطالب لا تتجاوز أبسط الحقوق: أمان، طمأنينة، وعودة للحياة الطبيعية. لكنهم يدركون أن طريق العودة ما زال غير واضح. وبينما يسود الهدوء الحذر في بعض المناطق، تبقى أصوات الانفجارات حاضرة في الذاكرة، حتى في غيابها.

اقرأ أيضاً:

وزير الخارجية يبحث مع نظيرته الألمانية سبل تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري

يارا حمادة

يارا حمادة صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى