عربي وعالمي

فرنسا وبريطانيا: شراكه استراتيجية جديدة أمن أوروبا في زمن التحديات

فرنسا وبريطانيا: شراكة إستراتيجية جديدة لأمن أوروبا"

 

جاءت زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المملكة المتحدة في يوليو 2025 لتعلن عن تحول دبلوماسي كبير في علاقات باريس ولندن، بعد سنوات من البرود والتوتر الناتج عن البريكست والتباينات السياسية بين الزعيمين السابقين. ففي كلمته أمام البرلمان البريطاني، تحدث ماكرون بنبرة وجدانية قائلاً: “أخيرًا نلتقي من جديد”، معيدًا للأذهان أن آخر زيارة مماثلة كانت منذ 17 عامًا. هذه العودة ليست مجرد احتفاء رمزي، بل إشارة إلى ما وصفه ماكرون بـ”إعادة التقارب” بين القوتين العسكريتين الأبرز في أوروبا.

 

وفي ظل المخاوف المتزايدة من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والتحديات الأمنية التي تفرضها الحرب في أوكرانيا والاضطراب في الشرق الأوسط، لم تعد أوروبا قادرة على الركون إلى المظلة الأمريكية وحدها. وهنا تبرز المسؤولية الخاصة لكل من فرنسا وبريطانيا، بوصفهما القوتين النوويتين الوحيدتين في أوروبا الغربية، وصاحبتا التاريخ الاستعماري الطويل والبنية العسكرية المتقدمة. زيارة ماكرون، إذًا، لم تكن مجرد زيارة رسمية بل لحظة إعادة تموضع استراتيجي لقارة تواجه تحولات كبرى في موازين القوى العالمية.

 

تحول رمزي في العلاقات بعد سنوات من القطيعة

زيارة ماكرون إلى لندن حملت دلالة رمزية كبيرة، باعتبارها أول زيارة دولة لرئيس فرنسي منذ عهد نيكولا ساركوزي في 2008. هذا الغياب الطويل لم يكن عرضيًا، بل يعكس حجم التوتر بين باريس ولندن بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لكن منذ رئاسة ريشي سوناك، ثم كير ستارمر، بدأت العلاقات تعود إلى مسار أكثر عقلانية. ماكرون استغل الزيارة ليؤكد أن “التضامن بيننا لا تحده مؤسسات”، في محاولة لتجاوز الحساسيات السياسية واستعادة أسس التعاون القاري.

 

المسؤولية النووية والأمنية المشتركة

من أبرز التصريحات التي أدلى بها ماكرون أمام البرلمان البريطاني، قوله إن فرنسا وبريطانيا تتحملان “مسؤولية خاصة” تجاه أمن أوروبا، باعتبارهما القوتين النوويتين الوحيدتين في القارة. هذا التصور لا ينطلق من موقع التفوق، بل من إدراك بأن النظام الدولي القائم على التحالفات بات مهددًا، وأنه يجب على باريس ولندن “صياغة” هذه المسؤولية من جديد، خصوصًا في ظل احتمالات تقليص الدور الأمريكي في الناتو في حال عودة ترامب للحكم.

 

تنسيق غير مسبوق في الردع النووي

واحدة من أبرز نتائج الزيارة كانت الاتفاق على تنسيق الردع النووي بين فرنسا وبريطانيا في حال وقوع “تهديد شديد” لأمن أوروبا. هذا الاتفاق يحمل أبعادًا استراتيجية غير مسبوقة، خاصة وأن فرنسا لطالما اعتبرت ترسانتها النووية قوة وطنية بحتة. التنسيق مع بريطانيا، التي تمد مظلتها النووية عبر الناتو، يمثل نقلة نوعية في التفكير الاستراتيجي الأوروبي، وقد يشكل نواة لـ”مظلة ردع قارية” مستقلة عن الاعتماد الكلي على واشنطن.

 

التعاون الدفاعي: من التجريب إلى التوسيع

زار الزعيمان مقر القيادة البحرية المشتركة لحلف الناتو في نورثوود، في إشارة إلى التزامهما بالتنسيق الدفاعي الميداني. كما اتفقا على توسيع قوة التدخل المشتركة إلى 50 ألف جندي، وتطوير قدرات الصواريخ البعيدة المدى. هذه الخطوات تُعيد إحياء روح معاهدة لانكستر هاوس (2010)، التي أرسى دعائمها ساركوزي وكاميرون، قبل أن تتآكل بفعل البريكست. اليوم، يتم إحياء تلك المبادئ تحت مظلة جديدة أكثر وعيًا بخطورة المرحلة.

 

أوروبا ما بعد أمريكا: نقاش الاستقلال الاستراتيجي

في ضوء تصاعد التوجسات من انسحاب محتمل للولايات المتحدة من التزاماتها الأمنية، بدأت العواصم الأوروبية تدرس سيناريوهات “أوروبا بلا أمريكا”. التعاون البريطاني الفرنسي في مجالات مثل الاستطلاع الفضائي، النقل الجوي، والتزود بالوقود في الجو، هو جزء من هذا التحول نحو “الاستقلال العملياتي”. وإذا ما تولى الاتحاد الأوروبي تمويل هذا التحول، فقد نشهد تقاربًا جديدًا بين لندن وبروكسل، ولو على أسس أمنية لا مؤسسية.

 

ألمانيا: قوة اقتصادية دون عمق عسكري كافٍ

ورغم إعلان ألمانيا عن خطط إنفاق دفاعي غير مسبوق، إلا أن لندن وباريس تظلان أكثر نضجًا من حيث “الثقافة الاستراتيجية”، أي القدرة على استخدام القوة كأداة سياسية. فبرلين، رغم مواردها، ما زالت تفتقر إلى إرادة سياسية واضحة في هذا الاتجاه. أما بولندا، ورغم طموحاتها العسكرية المتزايدة، إلا أنها تفتقر إلى خبرة قتالية حديثة. وهو ما يعزز من مركزية الدور البريطاني الفرنسي في قيادة المبادرات الأمنية الأوروبية.

 

الهجرة غير الشرعية: الخلاف لا يجب أن يعطل التفاهم

رغم الجدل المستمر حول الهجرة غير النظامية عبر القنال الإنجليزي، حذرت صحيفة “فايننشال تايمز” من اختزال العلاقات بين البلدين في هذا الملف فقط. التحديات الأمنية، وتغير المناخ، وملف الذكاء الاصطناعي، كلها قضايا تتطلب تنسيقًا استراتيجيًا لا يمكن أن يُرهن بخلافات ظرفية. ويبدو أن كير ستارمر حريص على إعادة صياغة العلاقة بشكل يتجاوز عقلية “ما بعد البريكست” التي خيمت على سنوات المحافظين.

 

إرث ثقيل من عدم الثقة المتبادل

لطالما نظر الفرنسيون إلى بريطانيا كـ”حصان طروادة أمريكي” داخل أوروبا، فيما ينظر البريطانيون بشك إلى كل ما يصدر عن باريس بوصفه امتدادًا لـ”الهيبة الغالية”. حتى وسائل الإعلام البريطانية لم تُخفِ عداءها الرمزي، ووصفت الزيارة بعنوان ساخر: “ماكرون المنتصر يصل لتلقي استسلام ستارمر في البريكست”. لكن تصريح ماكرون بأن “الثقة قد أُعيد بناؤها” بينه وبين ستارمر كان لافتًا، وربما يعكس تحولًا في طبيعة العلاقة بين الزعيمين.

 

من سان مالو إلى نورثوود: مسار من الانقطاع إلى التجديد

التعاون الأمني بين باريس ولندن ليس جديدًا، فقد بدأ فعليًا منذ إعلان سان مالو عام 1998، الذي دعا لوضع سياسة دفاع أوروبية مشتركة. لكن المشروع تعثر بسبب الخلافات السياسية، والبريكست، وعدم جاهزية الاتحاد الأوروبي لتولي زمام الدفاع الجماعي. اليوم، ومع عودة الحرارة إلى العلاقات، ثمة فرصة حقيقية لإعادة التفكير في “الركيزة الأوروبية داخل الناتو”، وهو ما يحتاج إلى توافق فرنسي بريطاني أولاً، قبل أي إطار أوروبي موسع.

 

خاتمة: لحظة استراتيجية نادرة لأوروبا.. وفرصة لقيادة مشتركة

في زمن تتراجع فيه أمريكا عن التزاماتها، وتتصاعد فيه التهديدات على حدود أوروبا، فإن التحالف الفرنسي البريطاني لا يعود مجرد امتداد لعلاقات تاريخية أو تحالف نووي، بل ضرورة استراتيجية. ماكرون وستارمر يدركان أن مستقبل أوروبا الأمني سيتوقف على قدرتهما على تجاوز الخلافات، وإطلاق شراكة جديدة، تؤسس لعقيدة أمنية مستقلة وأكثر انسجامًا مع الواقع الجديد.

اقرأ أيضاً

هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها دون الولايات المتحدة ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى